اتحاد العالم الإسلامي
اتحاد العالم الإسلامي
رئيس مجلس الإدارة د. محمد أسامة هارونرئيس التحرير أحمد نصار

«زيمينتال البرنية».. نقطة انطلاق أوروبا العصور الوسطى لمطاردة السحرة

منطقة زيمينتال البرنوية
منطقة زيمينتال البرنوية

كتب - خالد الحويطي:

انتشرت في أوروبا في العصور الوسطى محاكم التفتيش التي طاردت كل من هو ليس على هوى الكنيسة، واتهمت بعضهم بالهرطقة والإلحاد، واتهمت البعض بممارسة السحر والشعوذة وعقد تحالفات مع الشيطان وإيذاء الآخرين عبر أعمال السحر وكان عقاب هذه الفئة الحرق أحياء.. وبدأت مطاردات لمن يتهم بهذه الممارسات واضطهاد كبير عبر عشرات السنين.

ففي عام 1400، اتُهم العديد من الأشخاص في منطقة زيمينتال في منطقة أوبرلاند البرنية بممارسة السحر. وكان مركز الموضوع رجل من قرية بولتيجن، في أقصى الوادي، يقال إنه استخدم السحر للتسبب في الإجهاض، وإيذاء الماشية، وتدمير المحاصيل. واعترف تحت وطأة التعذيب بأنه عقد ميثاقا مع الشيطان.

وهذا ما جاء في كتاب “فورميكاريوس”، الذي ألفه عالم اللاهوت الدومينيكي الألماني يوهانس نيدرفي عام 1430، وهو عبارة عن أطروحة أخلاقية تهدف إلى تعليم شباب الدومينيكانية، وأصبح المصدر الرئيسي لكتاب مطرقة الساحرات ” Malleus Maleficarum” سيئ السمعة.

وفي أوروبا، عُدّ هذا الكتاب خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر بمثابة الكتاب التعليمي لعمليات ملاحقة السحرة والساحرات التي أودت بحياة الآلاف من الأشخاص.

وتقول كاثرين شين، المؤرخة بجامعة لوزان والتي تدرس عمليات صيد الساحرات التاريخية في سويسرا: “ساهمت الشهادات التي جمعها نيدر بشكل كبير في نشر الإيمان بممارسة السحر، وخاصة فكرة سبت السحر في أوروبا”.

لكن هل حدثت عملية المطاردة التي وصفها يوهانس نيدر في كتابه، في زيمينتال بالفعل ؟ يبدو أن هناك شكوكًا بين المؤرخين والمؤرّخات حول هذا الأمر، فلا يوجد لهذه الرواية غير مصدر واحد: الفورميكاريوس. ويرى الخبراء أن التحدي الثاني يتمثل في أنّ التقارير الواردة من منطقة برنيز أوبرلاند، مثلت ظاهرة حديثة كان لها أثر ممتد، لأنها تضمنت عناصر من أسطورة ممارسة السحر التي ظهرت لاحقاً في أماكن أخرى.

من أتباع اليهودية إلى ممارسة السحر

كانت اضطهادات الكنسية ضد غير المؤمنين والمؤمنات، أو ما يسمى بالهراطقة، موجودة منذ فترة طويلة زمنَ مطاردة السحرة والساحرات في زيمينتال، التي يعود تاريخها إلى القرن الثاني عشر. وشكّل اضطهاد أتباع الحركة الولدينيسية، حركة البروتستانتية السالفة، في القرن الرابع عشر بمثابة مقدمة لمحاكمات ممارسي السحر وممارساته، في سويسرا على الأقلّ.

ويزعم المؤرخ الإيطالي، كارلو جينزبورج، أيضا في كتابه “سبت السحر – فك رموز قصة ليلية”، أنّ المذابح التي قادتها الكنيسة في القرن الرابع عشر ضد اليهود، واضطهاد المصابين بالجذام المصابات به، وأيضا وباء الطاعون الهائل الذي ضرب أوروبا منذ عام 1347 فصاعدا، مهّدت الطريق أمام أول عمليات صيد ممارسي السحر وممارساته في أوروبا الوسطى.

وتوسعت دائرة المضطهدين والمضطهدات شيئا فشيئا، من الدائرة الصغيرة من المصابين بالجذام والمصابات به، إلى السحرة والساحرات، والمشعوذين والمشعوذات. ومع ذلك، لم تبدأ موجة الاضطهاد الكبرى إلا في القرن الخامس عشر، مما يجعل أحداث زيمينتال حالة مبكرة للغاية، وربما حتى الأولى.

تشكُل الإيمان بالسحرة والساحرات

ولأول مرة، سُجِّلت العناصر المركزية التي أسّست للاتهامات اللاحقة بالسحر. ومن هذه العناصر: العهد مع الشيطان، و”السبت”، والاستعانة بقوى الشيطان للتسبب في أمر ضار.

وتشير الأبحاث التاريخية التي أجرتها كاثرين شين في الأرشيفات البرنية، إلى بداية محاكمات السحرة والساحرات في المناطق البرنية منذ أوائل القرن الخامس عشر وما تلاها من سنوات. وتقول الباحثة: “رغم ذلك، لم يكن الإيمان بسبت السحر قد لعب دورا مهما بعد [في برن]، على عكس ما كان عليه الحال في الجزء الناطق بالفرنسية من أبرشية لوزان”.

أول اضطهاد للساحرات

ويمكن تفسير ظهور أولى عمليات صيد السحرة والساحرات في غرب سويسرا بعدة عوامل، منها وجود محاكم تفتيش فعّالة بعد محاكمات أتلاع الفالدينسية. وإضافة إلى ذلك، أصبحت المنطقة بأكملها، وخاصة غرب فرنسا، محل اهتمام الكنيسة بعد أن أمر البابا ألكسندر الخامس، المنتخب عام 1409، كبير المفتشين باتخاذ إجراءات ضد الطوائف الناشئة التي تتبع “طقوسًا محرمة” في تلك المنطقة.

وحسب تكهّنات شين، “كانت طبيعة الاتهامات الواردة في تقارير زيمينتال جديدة، وربما جُمِعت من قبل يوهانس نيدر من مصادر أخرى ونسبها إلى مخبره الرئيسي، القاضي الذي يدعى بيتر، من أجل منحها المزيد من الشرعية”.

سر القاضي بيتر

ولا تزال هوية هذا القاضي من برن غير معروفة، مما يجعل البحث عن الحقائق صعبا. ويفترض معظم المؤرخين والمؤرّخات في هذا الموضوع، أن بيتر فون جرويير هو الذي كان عمدة برن في أوبرزيمينتال بين عامي 1392 و1406.

وتقول شين: “ومع ذلك، يظهر بحثي الأرشيفي إمكانيّة وجود ضباط آخرين يحملون اسم بيتر أيضا، مثلا: بيتر ويندشاتز (1407-1410) أو بيتر فون إي (1417). ولا توجد سجلات حول هوية المحضرين بين عامي 1418 و 1432”.

التوترات السياسية

إذا كانت التقارير الواردة من زيمينتال مفبركة، فما هو السبب المحتمل وراء ذلك؟

كما هو الحال بالنسبة لمعظم عمليات مطاردة السحرة والساحرات، وفّرت التوترات الاجتماعية أرضا خصبة لحصول الأمر. فقد كانت مثل هذه الأشياء موجودة أيضا في ذلك الوقت في منطقة زيمينتال البرنية النائية.

وهكذا، ربّما أدّى التغيير السياسي في منطقة أوبرزيمينتال ابتداء من عام 1389، أي بعد ضمها للأراضي البرنية، إلى صراعات بين برن ورعاياها الجدد.

ويُعدّ سبب ذلك معروفا حسب تقرير شين، فقد “أظهرت الدراسات التي أجريت على حملة مطاردة ممارسي أعمال السحر وممارساتها في فاليه عام 1428، أن الاضطهادات هناك كانت قائمة على صراع بين البارون جيشارد من رارون، ومواطنيه في فاليه”.

ويمكن العثور على صدى موجز للتوترات المحتملة في أوبرزيمينتال أيضا في إحدى فقرات Formicarius، إذ وصف كيفيّة وقوع القاضي بيتر ضحية لهجوم “وحشي”، حينما هاجمه أربعة رجال وامرأة عجوز ردا على أحد أحكامه.

ومن ثم كان يمكن أن تكون اتهامات السحر بمثابة أداة فعالة يستخدمها القاضي لاضطهاد خصومه. وقد زوّدت تقاريره نيدر، ولاحقا مؤلفي كتاب Malleus Maleficarum، بمادة جيدة لنشر فكرة مؤامرة السحرة والساحرات على أوسع نطاق.

جنون عظمة خاص

وبالإضافة إلى التوترات السياسية، ربما لعبت ظروف القاضي الشخصية أيضا دورا حاسما. ووفقا لما كتبته المؤرخة كاثرين أوتز تريمب في بحثها المعنون بـ “هل الإيمان مسألة تخص النساء: حول بدايات اضطهاد الساحرات في فرايبورج”، فقد عانى بيتر فون غرييرز من أوهام جنون العظمة.

وفي نهاية فترة ولايته، غادر بيتر فون جرييرز قبيلة زيمينتال منهكا تماما ومصابا بالهستيريا، ثم “رثى معاناته ليوهانس نيدر، الذي أعاد تفسير القصة بأكملها، بربطها بالسحر”.

خرافات مزعجة

وربما كان غرويير يعاني من مشاكل مع سكان الجبال في منطقة أوبرزيمينتال، وربما كان هؤلاء أكثر تشبثا بالخرافات. ويمكننا أن نجد هذا الموقف تجاه سكان الجبال، لدى يوهانس نيدر أيضا.

وأضاف أن نقص الوعّاظ في تلك المناطق أدى إلى انتشار الجهل، مما جعل السكان عرضة للممارسات غير القانونية. وتقول شين: “في إحدى حكاياته، انتقد بعضًا من المؤمنين والمؤمنات، من مستخدمي علاجات غير مشروعة ومستخدماتها للتعافي من اللعنات، عوض الاعتماد على الصلاة وحدها”.

وسواء كانت التوترات ثقافية أو سياسية، أو تتعلق بهستيريا فردية أو حتى مزاعم بوجود السحرة والساحرات والمشعوذين والمشعوذات، فمن الواضح أنّ حوالي عام 1400، كانت هناك توترات سياسية واجتماعية في منطقة أوبرزيمينتال، التي تم التعبير عنها في أساطير السحر. ومن خلال إعادة تناولها في “فورميكاريوس” ثم في “مطرقة الساحرات”، ترسَّخ لموجات الاضطهاد المدمرة، التي اجتاحت أوروبا بأكملها في القرون التي تلتها، أساسٌ إيديولوجيّ قويّ.