أمير قطر في موسكو.. وساطة دقيقة لاحتواء أزمات الشرق الأوسط

في توقيت بالغ الحساسية إقليمياً ودولياً، حطَّ أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، رحاله في العاصمة الروسية موسكو، في زيارة رسمية تحمل أبعادًا سياسية ودبلوماسية معقّدة، في ظل اشتداد الصراع الروسي الأوكراني، وتصاعد التوتر في الشرق الأوسط. ووفق ما أعلنه الكرملين، فإن اللقاء مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيشمل توقيع عدد من الوثائق، إلى جانب مناقشات محورية تتناول ملفات أوكرانيا، وسوريا، وقطاع غزة، إضافة إلى قضايا الطاقة وعلى رأسها الغاز الطبيعي المسال.
الوساطة القطرية على طاولة الكرملين
الزيارة، التي وُصفت روسياً بأنها "بالغة الأهمية"، تأتي امتداداً لدور الوساطة الذي تحاول الدوحة ترسيخه في المشهدين الدولي والإقليمي. فبالرغم من أن النزاع الروسي الأوكراني وصل إلى مرحلة من التعقيد السياسي والعسكري تجعل احتمالات التسوية ضئيلة، فإن قطر واصلت جهودها للعب دور الوسيط، مستثمرة علاقاتها المتوازنة مع الطرفين، وقد نجحت في ترتيب عمليات إنسانية حساسة، من بينها تسهيل إعادة أطفال فُصلوا عن أسرهم خلال الحرب.
هذه التحركات تندرج ضمن ما يمكن تسميته بـ"الدبلوماسية القطرية الهادئة"، وهي سياسة أثبتت فعاليتها في عدد من الأزمات، وأبرزها الوساطة في ملفات إيرانية أميركية، وسابقًا في أفغانستان. لكن في الملف الأوكراني، تبدو التحديات أعقد، نظرًا لانقسام المواقف الدولية، وإصرار روسيا على شروطها الأمنية والجيوسياسية، في مقابل دعم غربي غير مشروط لكييف.
ملفات الشرق الأوسط على أجندة موسكو – الدوحة
إلى جانب الحرب الأوكرانية، يطرح لقاء موسكو نقاشاً معمقاً حول الأوضاع المشتعلة في قطاع غزة وسوريا، وهما ملفان تتقاطع فيهما مصالح قطر وروسيا وإنْ بتباينات واضحة. فبينما تتبنى قطر موقفاً داعماً لحلول سياسية تراعي مصالح الشعوب في كلا السياقين، تسعى روسيا إلى تثبيت أقدامها كفاعل عسكري ودبلوماسي في المنطقة، لا سيما في سوريا، حيث تدعم النظام الحاكم.
في قطاع غزة، تبرز قطر كأحد أبرز الداعمين للقطاع مالياً وإنسانياً، كما تتمتع بعلاقات مباشرة مع حركة حماس. وهو ما يجعلها لاعباً أساسياً في أي محاولة لوقف التصعيد أو التوصل إلى تهدئة. روسيا، من جانبها، تنظر بعين القلق إلى الدور الأميركي في الشرق الأوسط، وترى في تعميق علاقاتها مع قوى عربية – مثل قطر – فرصة لبناء توازنات جديدة خارج الهيمنة الغربية.
شراكة اقتصادية في ظل تحولات الطاقة
بعيداً عن السياسة، تكتسب الزيارة بعداً اقتصادياً استراتيجياً، خاصة في ظل تقلبات أسواق الطاقة العالمية. فقد أكد الكرملين على متانة العلاقات التجارية بين البلدين، وعبّر عن تقديره للتعاون القائم في قطاع الغاز الطبيعي المسال، وهو أحد أهم أركان اقتصاد قطر، وفي الوقت نفسه من الأدوات التي تستخدمها روسيا لمواجهة العقوبات الغربية.
وفي ظل اشتداد التنافس الجيوسياسي على مصادر الطاقة وتدفقات الغاز نحو أوروبا وآسيا، فإن تقاطع المصالح بين موسكو والدوحة قد يفتح الباب أمام تفاهمات جديدة في هذا القطاع، سواء في إطار "منتدى الدول المصدرة للغاز" أو من خلال شراكات ثنائية أوسع.
من الاعتراف إلى التنسيق الاستراتيجي
منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الدوحة وموسكو أواخر ثمانينات القرن الماضي، حافظ البلدان على مسار تصاعدي في التنسيق السياسي والاقتصادي، رغم اختلاف التموضعات والتحالفات الدولية. وكانت أول زيارة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الدوحة عام 2007، بداية لتحول نوعي في مستوى العلاقات، خصوصاً مع دخول روسيا بقوة على خط أزمات الشرق الأوسط.
زيارة الشيخ تميم اليوم تأتي في لحظة عالمية تتغير فيها موازين القوى، ويعاد فيها رسم خرائط النفوذ، وتُختبر فيها قدرة الدول الصغيرة على لعب أدوار دبلوماسية كبيرة. ومن هنا، فإن الدوحة، رغم صغر حجمها الجغرافي، تسعى إلى تكريس مكانتها كوسيط دولي موثوق، وصاحب تأثير في ملفات معقدة، بدءاً من كابول، مروراً بغزة، وصولاً إلى كييف.