الحرب التجارية بين واشنطن وبكين.. مرونة شعبية مقابل تصلب سياسي.. هل تنقذ الدبلوماسية ما أفسدته الرسوم؟

في ظل اشتداد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، بدأت مؤشرات لافتة تظهر في الرأي العام الأميركي، حيث كشف استطلاع حديث أجراه مركز "بيو" للأبحاث عن انخفاض طفيف في النظرة السلبية تجاه الصين. فقد تراجعت نسبة الأميركيين الذين يحملون آراء غير إيجابية من 84% في عام 2024 إلى 77% في 2025، وهي أول مرة تسجّل فيها هذه النسبة انخفاضاً منذ خمس سنوات.
رغم تصاعد حدة الرسوم الجمركية بين البلدين – إذ فرضت واشنطن رسوماً تصل إلى 145% على السلع الصينية، وردّت بكين برسوم بنسبة 125% وحظر استيراد الغاز الأميركي – إلا أن بعض الأميركيين يبدو أنهم يبدون قدراً من "المرونة" أو الواقعية في نظرتهم إلى العلاقات الثنائية، خاصة في ظل التأثير المباشر لتلك السياسات على المستهلك الأميركي وسلاسل التوريد العالمية.
التباين بين الرأي العام والسياسة الرسمية
تُظهر بيانات الاستطلاع تبايناً واضحاً بين قناعة الشارع الأميركي وموقف إدارة الرئيس دونالد ترمب. فبينما يرى 52% من المشاركين أن الرسوم الجمركية تضر بالولايات المتحدة، يعتقد 24% فقط أنها مفيدة. ويؤكد هذا الانقسام الشعبي أن تبعات الحرب التجارية لم تترجم إلى مكاسب اقتصادية ملموسة بالنسبة للغالبية.
كما يعتقد أميركي من كل أربعة أن الصين هي المستفيد الأكبر من العلاقة التجارية، بينما يرى 25% أن الطرفين يستفيدان بشكل متساوٍ، مما يعكس وعياً متزايداً بتشابك المصالح بين الاقتصادين، على عكس الصورة العدائية التي تسعى الإدارة إلى ترسيخها.
تعقيدات سياسية ودبلوماسية
في المقابل، تتبنى إدارة ترمب سياسة متشددة وغير مرنة، قاطعة الطريق أمام أي مبادرات دبلوماسية. فبعد أن فرض ترمب رسوماً شاملة في 2 أبريل، ثم استثنى معظم الدول منها باستثناء الصين، اختار التصعيد مجدداً برسوم وصلت إلى 145%، متهماً بكين بتقويض النظام التجاري العالمي. هذا في الوقت الذي لم تُبذل فيه جهود دبلوماسية فعلية، إذ لم يُعيّن حتى الآن سفير أميركي لدى الصين، كما لم تُجرَ أي اتصالات مباشرة مع السفارة الصينية أو تُرسل بعثات تفاوضية، ما أدى إلى شلل في قنوات التواصل.
ردّ الصين لم يكن أقل حدة؛ فقد وصف المتحدث باسم خارجيتها الإجراءات الأميركية بأنها أنانية، مؤكداً أن بلاده "مستعدة للذهاب بعيداً في هذه المواجهة"، مما ينذر بطول أمد الأزمة في ظل تصلب كلا الطرفين.
تصدع الثقة وتراجع احتمالات الحل
المفارقة تكمن في أن ترمب، رغم تصعيده الحاد، يتحدث عن إمكانية التوصل إلى اتفاق خلال "3 إلى 4 أسابيع". لكن هذه التصريحات، في ظل غياب تواصل فعلي وتعليق المفاوضات، تبدو أقرب إلى التمنيات منها إلى المؤشرات الواقعية. الرئيس الصيني شي جين بينغ بدوره يبدو غير متحمس لإجراء أي لقاء مباشر مع ترمب، خوفاً من أن يُستخدم الاجتماع كأداة استعراضية داخلية لصالح الحملة الانتخابية الأميركية، خاصة أن بكين اختارت بدلاً من ذلك تعميق علاقاتها مع دول آسيوية أخرى تضررت من السياسات الأميركية.
البيئة السياسية في الولايات المتحدة كذلك لا تبشّر بانفراج قريب، إذ لا يبدو أن هناك إرادة داخلية قوية لتفعيل القنوات الدبلوماسية مع بكين. غياب التنسيق الرسمي، وتأخر تعيين الشخصيات المعنية بالتفاوض، ورفض الإدارة أي وساطة غير مباشرة، كلها عوامل تدفع بالصراع نحو مزيد من الجمود.
تكشف الأزمة الحالية عن مفارقة لافتة: فبينما بدأت المواقف الشعبية تتجه نحو قدر من البراغماتية والتوازن، تزداد السياسات الرسمية تصلباً وانغلاقاً. الحرب التجارية ليست مجرد أرقام ورسوم، بل تُشكّل اختباراً حقيقياً لمرونة النظم السياسية ومدى استعدادها للاستماع إلى نبض شعوبها.
فهل ينتصر صوت العقل والدبلوماسية؟ أم أن التصعيد السياسي يطغى على كل محاولة لتجسير الهوة بين أكبر اقتصادين في العالم؟ الأيام المقبلة وحدها تحمل الإجابة.