صوت قيثارة السماء: حكاية الشيخ محمد رفعت من درب الجماميز إلى الاذاعة
في طقس سنوي معتاد، يترقب الصائمون في أول أيام شهر رمضان قرآن المغرب عبر أثير إذاعة القرآن الكريم بصوت القاريء الشيخ محمد رفعت.
ورغم رحيله قبل 74 عامًا فإن صوت الشيخ محمد رفعت الذي يفيض خشوعًا وتبتلاً لا يزال خالدًا حتى الآن..
فمن ذلك هو القاريء الجليل الذي ملأ صوته الآفاق ولا يزال.
درب الجماميز.. نقطة البداية
ولد الشيخ محمد رفعت - واسمه مُركبّ - بالدرب الأحمر بالقاهرة، يوم الاثنين 9 مايو 1882، وكان والده محمود رفعت ضابطًا في البوليس.
ولد القاريء الراحل مبصرًا، ولكنه سرعان ما فقد بصره وهو ابن عامين فقط، فوهب محمود بك رفعت صغيره الكفيف لخدمة القرآن الكريم، وألحقه بكتّاب الشيخ فاضل بـ «درب الجماميز» بالقاهرة، فأتم حفظ القرآن وتجويده قبل العاشرة. وفي لطمة جديدة للطفل الكفيف.. توفي الوالد، ليجد نفسه عائلا لأسرته، فلجأ الى القرآن الكريم يعتصم به، ولا يرتزق منه، وأصبح يرتل القرآن الكريم في المسجد المواجه لمكتب فاضل باشا، حتى عيُن وهو ابن 15 عاما قارئا للسورة يوم الجمعة، فذاع صيته، وعرف الناس اسمه.
ظل محمد رفعت يقرأ القرآن الكريم، ويرتل في هذا المسجد، قرابة 30 عامًا، وفاء منه للمسجد، الذي انطلق منه.
كيف بدأ اهتمامه بالموسيقى:
لم يكتف القارئ النابه بموهبته الصوتية الربانية، ومشاعره المرهفة في قراءة القرآن الكريم، بل عمّق هذا بدراسة علم القراءات، وبعض التفاسير، واهتم بشراء الكتب، ودراسة الموسيقى الرقيقة، والمقامات الموسيقية، فدرس موسيقى «بيتهوفن»، و«موزارت» و«فاجنر»، وكان يحتفظ بالعديد من الأوبريتات العالمي في مكتبته.
امتاز الشيخ محمد رفعت بعفة النفس والزهد في متاع الدنيا، وكأنه جاء من رحم الغيب لخدمة كتاب الله. لم يكن طامعًا في المال مثل كثيرين غيره، إنما كان ذا مبدأ ونفس كريمة، فكان قوله: «إن سادن القرآن لا يمكن أبدا أن يُهان أو يُدان» ضابطًا لمسار حياته، وهو ما دفعه إلى رفض تبرع كبير لعلاجه عندما اشتد به المرض وحاصره.
موعد مع الإذاعة:
عندما افتتحت الإذاعة المصرية يوم الخميس 31 مايو 1934 كان الشاب الكفيف أول من افتتحها بصوته العذب بأوائل سورة الفتح: «انا فتحنا لك فتحًا مبينًا»، وكان قد استفتى قبلها الأزهر وهيئة كبار العلماء، عما إذا كانت إذاعة التلاوات القرآنية حلالا أم حراما، فأفتوه بأنها حلال، وكان - رحمة الله عليه - يخشى أن يستمع الناس الى القرآن الكريم وهم في الحانات والملاهي.
مع تمتع الشيخ محمد رفعت بحس مرهف ومشاعر فياضة، كان أيضا إنسانا في أعماقه، يهتز وجدانه اهتزاز عنيفا في المواقف الانسانية، وتفيض روحه بمشاعر جياشة، لا تجد تعبيرا عن نفسها، إلا في دموع خاشعات، تغسل ما بالنفس من أحزان.
عُرف عن الشيخ محمد رفعت - رحمه الله - العطف والرحمة والشفقة، فكان يجالس الفقراء والبسطاء، وبلغت رحمته أنه كان لا ينام حتى يطمئن على حصانه، ويطعمه ويسقيه، ويوصي أولاده برعايته، وهو إحساس خرج من قلب ملئ بالحب والحنان والشفافية والصفاء، وهي صفات ظلت تلازمه - رحمه الله - ولم يعكرها يوما إحساسه بإعاقة البصر. من أجل ذلك.. جاءت نغماته منسجمة مع نغمات الكون من حوله.
منتدى ثقافي وفني:
كان منزل رفعت أشبه بمنتدى ثقافي وأدبي وفني دائم، حيث ربطته صداقة قوية بمحمد عبدالوهاب، الذي كان يحرص على قضاء بعض سهراته في منزل الشيخ بحيّ السيدة زينب، وكثيرا ما كانت هذه الجلسات تضم أعلام الموسيقى والفن، وكان الشيخ يغني لهم بصوته الرخيم قصائد عدة، منها «أراك عصيّ الدمع». كان رفعت بكّاء بطبعه، فكانت الدموع تنهمر من عينيه عند تلاوة القرآن الكريم، ما أضفى على أدائه خشوعا نادرا وفريدا.
نهاية حزينة.. تعرف عليها
مع بداية الأربعينات من القرن الماضي، لاحقت الأمراض الشيخ الجليل، فأصيب بضغط الدم والتهاب رئوي حاد، وبـ «الزغطة»، التي منعته من التلاوة ومن الكلام، ولزم داره حتى توفاه الله في يوم مولده الاثنين التاسع من مايو 1950 عن عمر يناهز 68 عاما.
جاء رحيل رفعت صادما ومفجعا للعامة والنخبة، ورثاه بعضهم بكلمات لاتزال خالدة حتى الآن، فقال عنه الأديب محمد السيد المويلحي في مجلة «الرسالة»: «سيد قراء هذا الزمان، موسيقيّ بفطرته وطبيعته، كان يزجي الى نفوسنا أرفع أنواعها، وأقدس وأزهى ألوانها، كان يأسرنا ويسحرنا بصوته، من دون أن يحتاج إلى أوركسترا»، وقال عنه الكاتب الكبير أنيس منصور: «لايزال المرحوم الشيخ رفعت أجمل الأصوات وأروعها، وسر جمال وجلال صوته أنه كان فريدا في معدنه... وأن هذا الصوت كان قادرا على أن يرفعك الى مستوى الآيات ومعانيها، ثم انه ليس كمثل أي صوت آخر». ووصف الموسيقار محمد عبدالوهاب صوته بأنه «ملائكي يأتي من السماء لأول مرة».
ترميم تسجيلاته وفتح جديد:
وقبل أيام قليلة أعلنت مدينة الإنتاج الإعلامي برئاسة المهندس عبد الفتاح الجبالي عن نجاح المدينة في ترميم تسجيلات جديدة للشيخ محمد رفعت، تصل إلى 30 ساعة، وتم تسليمها إلى الإذاعة لعرضها تباعًا.. وهكذا يظل صوت قيثارة السماء خالدًا بخلود كتاب الله.