تركيا وإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية.. تحالف جديد لمحاربة الجهاديين

تعمل تركيا على الدفع باتجاه إعادة ترتيب الأوراق الأمنية والعسكرية في الشرق الأوسط، بعيدًا عن النفوذ الأمريكي التقليدي. فقد صرّح وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، في مقابلة مع صحيفة فايننشال تايمز، بأن أنقرة تسعى إلى تطوير تحالف إقليمي لمكافحة الجماعات الجهادية، ليكون بديلاً عن المهمة التي تقودها الولايات المتحدة في المنطقة.
وأوضح فيدان أن تركيا تعتزم دحض الرواية التي تروج لها واشنطن، والتي تعتبر القوات الكردية المسلحة عنصراً ضرورياً في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وأكد أن بإمكان الدول الإقليمية تنفيذ هذه المهمة دون الحاجة إلى القوات التي تقودها الولايات المتحدة.
إعادة توزيع الأدوار الأمنية في شمال سوريا
أعرب وزير الخارجية التركي عن أمله في انسحاب القوات الأمريكية من سوريا خلال ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مشيراً إلى أن أنقرة مستعدة لملء الفراغ الأمني في المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد). وشدد فيدان على أن تركيا قد تتولى مسؤولية المعسكرات والسجون التي تديرها "قسد" في شمال سوريا، ما يعكس نية أنقرة لتعزيز سيطرتها المباشرة على الملف السوري، دون الحاجة إلى التدخل الغربي.
وأشار فيدان إلى أن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا راهنوا على دعم فصيل مسلح لمواجهة فصيل إرهابي آخر، في إشارة إلى دعم "قسد" لمحاربة داعش، مؤكداً أن هذا الرهان لم يكن خياراً صائباً من وجهة نظر أنقرة.
حل التنظيم أو مواجهة تصعيد عسكري
في تصعيد جديد للموقف التركي، شدد فيدان على ضرورة حل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) نفسها، وطرد مقاتليها غير السوريين من البلاد، وإلا فإنها ستواجه تصعيدًا عسكريًا جديدًا من جانب تركيا. ولفت إلى أن نحو 2000 من مقاتلي "قسد" ينتمون إلى حزب العمال الكردستاني، وهو ما تعتبره أنقرة تهديداً مباشراً لأمنها القومي.
وأكد فيدان أن أنقرة لا يمكنها السماح لـ"قسد" بالاستمرار، لكنها مستعدة لمنح الحكومة السورية الفرصة للتعامل مع هذا الملف. وهذا يعكس تحوّلًا في السياسة التركية تجاه دمشق، حيث قد تكون أنقرة مستعدة للتنسيق مع حكومة الرئيس السوري بشار الأسد في هذا الشأن، رغم الخلافات السابقة بين الجانبين.
تركيا وخياراتها الأمنية في أوروبا بعد الناتو
على صعيد آخر، كشف وزير الخارجية التركي أن بلاده تدرس الانضمام إلى ميثاق أمني أوروبي جديد قد ينشأ بعد انهيار محتمل لحلف شمال الأطلسي (الناتو). وأوضح أن تصرفات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بما في ذلك تلميحاته المتكررة إلى تقليص التزامات واشنطن الأمنية تجاه أوروبا، يجب أن تكون بمثابة "دعوة للاستيقاظ" للدول الأوروبية من أجل إعادة تقييم تحالفاتها الأمنية وتشكيل مركز ثقل جديد.
وأكد فيدان أن تركيا، رغم كونها عضواً أساسياً في الناتو، لا تمانع في أن تكون جزءاً من أي بنية أمنية أوروبية مستقبلية في حال تراجع دور الحلف. كما أشار إلى أن حتى لو قررت واشنطن البقاء في أوروبا، فقد يكون هناك اتجاه متزايد بين بعض الحلفاء الأوروبيين لتقليل الاعتماد على المظلة الأمنية الأمريكية، وهو ما قد يدفع أنقرة إلى إعادة تقييم موقعها الاستراتيجي ضمن هذه التغيرات.
تركيا تطالب العمال الكردستاني بإلقاء السلاح
كما دعت وزارة الدفاع التركية، "حزب العمال الكردستاني" إلى التخلي عن السلاح فورًا ودون أي شروط، في خطوة تعكس تشديد أنقرة لموقفها تجاه الجماعة المسلحة.
وجاء في بيان الوزارة: "على (حزب العمال الكردستاني) وجميع الفصائل المرتبطة به وقف أنشطتهم الإرهابية، وحلّ أنفسهم على الفور ودون شروط، وإلقاء السلاح نهائيًا."
وتشمل هذه المطالبة، التي تأتي بعد أسبوع من دعوة عبد الله أوجلان، الزعيم التاريخي للحزب، إلى حله، المقاتلين الأكراد الأتراك المتمركزين في جبال شمال العراق، بالإضافة إلى العناصر التي انضمت إلى "قوات سوريا الديمقراطية" في شمال شرقي سوريا.
تحوّل الاستراتيجية التركية
تعكس هذه التصريحات تحوّلاً في الاستراتيجية التركية على مستويين رئيسيين:
إقليمياً، تسعى أنقرة إلى توسيع نفوذها الأمني في الشرق الأوسط، من خلال تعزيز دورها في محاربة التنظيمات الجهادية، والتخلص من الاعتماد على القوات الكردية المدعومة أمريكياً. كما يبدو أن تركيا تتجه نحو صياغة تحالف إقليمي جديد لمواجهة داعش، بما يضمن لها نفوذاً أكبر في سوريا والعراق.
دولياً، تعيد تركيا النظر في علاقتها مع الناتو، حيث تفتح المجال أمام خيارات بديلة في حال تراجع التزام الولايات المتحدة بأمن أوروبا. وهذا قد يضعها في موقع محوري ضمن أي نظام أمني أوروبي جديد، خاصة إذا قررت الدول الأوروبية تعزيز استقلاليتها الدفاعية.
بناءً على هذه التطورات، يبدو أن أنقرة تسير على خطين متوازيين: الأول يتمثل في تعزيز دورها كقوة إقليمية أمنية في الشرق الأوسط، والثاني في إعادة تموضعها ضمن المشهد الأمني الأوروبي، تحسباً لأي تغييرات قد تطرأ على حلف الناتو.