توترات الحدود بين مالي وموريتانيا.. حوادث عنيفة تزايد الاحتقان
تصاعدت التوترات بين مالي وموريتانيا خلال الثلاثة أشهر الأخيرة بسبب الاعتداءات على مواطنين موريتانيين في المناطق الحدودية التي تمتد على مسافة تزيد عن 2200 كيلومتر. عبر الشعب الموريتاني، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، عن غضبهم واستنكارهم لتلك الأعمال التي تقوم بها القوات المالية. قام وزير الدفاع الموريتاني، حننه ولد سيدي، بزيارة إلى عاصمة مالي باماكو برفقة رئيس الاستخبارات العسكرية الموريتاني، في محاولة لحل الأزمة وتقريب وجهات النظر مع الرئيس المالي آسيمي غويتا. ومع ذلك، لم تسفر هذه الجهود عن أي تقدم ملموس، مما يثير مخاوف في الأوساط الغربية من احتمالية نشوب صراع مسلح بين البلدين في المستقبل القريب.
من الملفت للانتباه أن الحوادث الحدودية بين مالي وموريتانيا، التي تتضمن اعتداءات بأسباب متنوعة مثل الصراعات الرعوية والهجمات المتطرفة، تمتلك جذوراً تاريخية تعود لفترات طويلة. يعزى ذلك جزئياً إلى عدم قدرة غالبية دول الساحل الأفريقي على مراقبة حدودها بشكل كامل وفعال، وبالتالي فإن التداخلات الحدودية لها أسباب موضوعية تتعلق بالعلاقات القبلية والتمدد الطبيعي للمجتمعات عبر الحدود الوطنية.
التطورات الأخيرة تشير إلى تصاعد العنف والتوتر بين البلدين، حيث أن الحوادث الرعوية التي بدأت في يناير 2023 وتسببت في تظاهرات في نواكشوط، تطورت في أبريل 2024 إلى حوادث ذبح يُنسب إلى القوات المسلحة المالية، وتبعتها أحداث مشابهة من القتل والاختطاف في المناطق الموريتانية، وفقًا لتقارير وشهادات من الجانب الموريتاني. بالإضافة إلى ذلك، تم اعتراض سيارات موريتانية ومنعها من المرور من قبل محتجين من مالي. هذه التطورات تظهر تفاقم الصراعات الحدودية وتأزم العلاقات بين البلدين.
ربما يكون أخطر ما حدث هو دخول عناصر من الفيلق الروسي إلى الأراضي الموريتانية الواقعة قرب الحدود مع مالي، بخاصة قرية تسمّى "مد الله"، وأطلقت النار على السكان، فأثار ذلك موجة من الاستياء داخل الأوساط السياسية والأمنية في موريتانيا، إذ كان الروس (فاغنر) يطاردون بعض الجماعات المسلحة في مالي، ودخلوا الحدود الموريتانية من طريق الخطأ، وهو الأمر الذي تعاملت معه عناصر الجيش الموريتاني.
في هذا السياق، ربما يكون من الضروري عدم عزل المتغيرات المستجدة في منطقة الساحل الأفريقي، وذلك على الصعيدين الإقليمي والدولي، وهي المتغيرات التي من شأنها أن ترسم خرائط جديدة للتفاعلات الأفريقية في منطقة الساحل، متأثرة في ذلك بالتنافس الفرنسي - الروسي على وجه التحديد، وكذلك قصور الأداء الأميركي الواضح في أفريقيا، وذلك على رغم تدشين استراتيجية أميركية لأفريقيا، خصوصاً دول جنوب الصحراء، وذلك اعتباراً من أغسطس 2024.
أنتجت الانقلابات العسكرية في منطقة الساحل الأفريقي خلال السنوات الأربع الماضية عدداً من المتغيرات الأساسية، أولها وحدة السلطات الانقلابية في كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وذلك بإعلانها تحالفاً استراتيجياً في سبتمبر 2023، في خطوة شكّلت تغييراً جيوسياسياً في غرب أفريقيا، إذ وقعت مالي والنيجر وبوركينا فاسو، في باماكو، على اتفاقية دفاع عسكري مشترك تحت اسم "تحالف دول الساحل". الهدف منها بحسب الإعلان هو نظام عسكري مشترك للدفاع الجماعي ضد أي نوع من التهديدات، وكذلك قيام المساعدات المتبادلة في كل المجالات.
عوامل عدة أسهمت في بروز هذا التحالف، الأول هو أن البلدان الثلاثة قد انقلبت على الوجود العسكري الفرنسي على أراضيها، إذ كانت جزءاً من تحالفG5 الذي كوّنته باريس تحت عناوين مكافحة الإرهاب في هذه المناطق، كما كانت مالي محلاً لتدخل عسكري فرنسي عام 2013 تحت مظلة موافقات أممية وذلك للهدف ذاته.
العامل الثاني أنه قد ترتب على الانقلابات العسكرية في دول الساحل الأفريقي، خصوصاً في النيجر، تلويح بتدخل عسكري وعقوبات من جانب منظمة غرب أفريقيا إيكواس، التي تأسست لأغراض التعاون الاقتصادي بين دول غرب أفريقيا، لكنها تحوّلت إلى ذراع عسكرية لفرنسا في الإقليم، إذ لعبت دوراً كبيراً في التدخلات العسكرية ضد دول متعددة، لأسباب متعلقة بتداول السلطة ومدى استجابتها لشروط المدنية والسلمية.
أما العامل الثالث فهو تصاعد التهديدات الإرهابية في الدول الثلاث، والحاجة الملحة إلى حماية نظم الحكم العسكرية الوليدة من ناحية، والحفاظ على أمن وسلامة هذه الدول من ناحية أخرى، في ضوء وجود مؤشرات عالمية متخصصة تشير إلى تصاعد العمليات الإرهابية في أفريقيا، خصوصاً بمنطقة الساحل الأفريقي حتى 2050، إذ يمكن ذكر أنه خلال أبريل 2024، أعلن جيش مالي حصيلة عمليات عسكرية متفرقة نفذها ضد الجماعات الإرهابية، وأكد تصفية مجموعة من قادة تنظيم "القاعدة" في منطقة تمكبتو، وسط البلاد، يتهمهم الجيش بالوقوف خلف كثير من الهجمات الإرهابية في المنطقة. وبالتوازي مع ذلك فشل الجيش في تحرير 110 مدنيين اختطفهم إرهابيون قبل أسبوع حين كانوا في 3 حافلات اختفت وسط الغابات.
في هذا السياق تجري حالياً عدة معارك عنيفة في وسط مالي، بعضها قريبة من الحدود مع موريتانيا، ما بين الجيش المالي من جهة، المدعوم بالسلاح الروسي وبمقاتلين من الفيلق الأفريقي، وكذلك مقاتلي جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" الموالية تنظيم "القاعدة".
شهدت منطقة الساحل الأفريقي متغيرات أساسية لها انعكاسات على مجريات التنافس في السياق الدولي من ناحية، وعلى دول الساحل من ناحية أخرى، وطبيعة العلاقات المستقبلية المتوقعة بينهم، إذ إن توتر العلاقات بين أهم ثلاث دول في منطقة الساحل وهي النيجر وبوركينا فاسو ومالي وبين فرنسا نتيجة الانقلابات العسكرية قد ترتب عليه إحلال النفوذ العسكري الروسي، وذلك لمواجهة تصاعد التهديدات الأمنية المحلية.