جامعات النخبة في مواجهة البيت الأبيض.. أزمة الحريات الأكاديمية في ظل عودة ترامب

في تطور لافت يعكس حجم التوتر بين المؤسسات التعليمية العليا والإدارة السياسية في الولايات المتحدة، وقّعت أكثر من 100 جامعة وكلية أميركية، من بينها جامعتا برينستون وبراون المرموقتان، رسالة مشتركة تُدين ما وصفته بـ"التدخل السياسي غير المسبوق" من قِبل إدارة الرئيس دونالد ترامب في الشأن الأكاديمي، في ظل تصاعد حملة قمع غير معهودة ضد الحركات الطلابية المتضامنة مع فلسطين.
من احتجاجات جامعية إلى أزمة سياسية
تعود جذور الأزمة إلى منتصف أبريل 2024، حين انطلقت شرارة الاحتجاجات الطلابية من حرم جامعة كولومبيا في نيويورك، مع تنظيم اعتصام مفتوح قاده تحالف يضم أكثر من 120 منظمة طلابية وأعضاء هيئة التدريس. الحراك جاء في سياق موجة تضامن واسعة مع الشعب الفلسطيني، وتنديد بالعدوان على غزة، واتهامات مباشرة للولايات المتحدة بالتواطؤ السياسي والدعم العسكري لإسرائيل.
لكنّ هذه التحركات قوبلت بتصعيد حاد من قبل إدارة ترامب، التي لم تكتفِ بالإدانة الإعلامية، بل شرعت في اتخاذ خطوات تنفيذية وصفتها الأوساط الحقوقية والأكاديمية بأنها "قمعية وغير دستورية". وصف ترامب هذه الاحتجاجات بأنها "مظاهر لدعم الإرهاب"، وأكد في منشور على منصته تروث سوشيال عزمه اتخاذ إجراءات تأديبية وقانونية تشمل الفصل والطرد والاعتقال بحق الطلاب المحتجين، ما اعتُبر تهديداً مباشراً للحريات الطلابية والحقوق المكفولة بالتعديل الأول للدستور الأميركي.
الجامعات تتحرك.. الدفاع عن استقلالية الحرم الأكاديمي
رد الفعل الجماعي من أكثر من مئة مؤسسة أكاديمية جاء كمحاولة لحماية استقلال الجامعات من تدخل السلطة التنفيذية. في الرسالة المفتوحة التي وُصفت بأنها غير مسبوقة من حيث عدد الموقعين، أجمعت الجامعات على رفض "تسييس الفضاء الجامعي"، محذّرة من المساس بأحد أهم أعمدة الديمقراطية الأميركية: حرية التعبير والنقاش المفتوح.
الاعتقال السياسي وتضييق الحريات.. قضية محمود خليل
التصعيد الرسمي بلغ ذروته في مارس الماضي، حين اعتُقل الناشط الفلسطيني محمود خليل، أحد أبرز رموز الحراك الطلابي في جامعة كولومبيا، في خطوة مثّلت نقطة تحول في مسار الأزمة. خليل الذي قاد اعتصامات حاشدة نددت بـ"الإبادة الجماعية في غزة"، أصبح رمزاً للضغط الممنهج على الأصوات المؤيدة لفلسطين داخل الجامعات، في ظل اتهامات مبطّنة من إدارة ترامب بـ"الترويج للإرهاب تحت غطاء النشاط الطلابي".
الأبعاد القانونية والسياسية
تصريحات ترامب وممارساته تُثير قلقاً واسعاً في الأوساط الحقوقية والأكاديمية بشأن تهديده لمبدأ استقلال الجامعات، وخرقه الواضح لحرية التعبير. فالتلويح بالفصل والاعتقال بناءً على مواقف سياسية، يعيد إلى الواجهة مخاوف من عودة "مكارثية جديدة" تُطارد الناشطين والمعارضين تحت شعارات الأمن القومي ومكافحة التطرف.
كما أن تركيز ترامب على الحراك الداعم لفلسطين تحديداً، يطرح تساؤلات حول ازدواجية المعايير في التعامل مع الحركات الطلابية، ويعكس توجهاً أيديولوجياً يربط بشكل تعسفي بين التضامن مع فلسطين و"معاداة السامية"، وهو اتهام تواجهه حملات التضامن بشكل متكرر دون سند قانوني واضح.
الأزمة الراهنة بين إدارة ترامب والجامعات الأميركية تتجاوز كونها سجالاً حول احتجاجات طلابية، لتتحول إلى اختبار حقيقي لمدى صلابة الحريات الأكاديمية في الولايات المتحدة، وإلى أي حد يمكن للسلطة التنفيذية أن تُخضع المؤسسات المستقلة لرؤيتها السياسية. كما تبرز هذه الأزمة البُعد الدولي للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي داخل الجامعات الغربية، حيث لم يعد التضامن مع فلسطين مجرد موقف إنساني، بل ساحة مواجهة سياسية قد تكلّف أصحابها مستقبلهم الأكاديمي أو حريتهم الشخصية.
وفي ظل اتساع رقعة الاحتجاجات واشتداد الضغط السياسي، تبدو الجامعات الأميركية في مفترق طرق: إما أن تُثبت قدرتها على الصمود كفضاءات حرة للفكر، أو تنزلق إلى مرحلة تكميم منهجي لصوت المعارضة، يُقوّض أحد أهم ركائز الديمقراطية الليبرالية الأميركية.