أوروبا في ورطة بعد رغبة ترامب بتقليص وجود أمريكا العسكري

فاجأت الولايات المتحدة شركاءها الأوروبيين برغبتها في تقليص وجودها العسكري في أوروبا والتركيز على مناطق أكثر أهمية، مثل المحيطين الهندي والهادئ. يشمل ذلك نقل القوات الأمريكية التقليدية من أوروبا إلى مناطق أخرى ذات أولوية، مثل تأمين الحدود مع المكسيك.
واشنطن تسعى للحد من تدخلها في الصراعات الأوروبية، خاصة الحرب في أوكرانيا، ودفع الأوروبيين لتحمل المسؤولية في وقف إطلاق النار. وقد بدأ المسؤولون الأوروبيون في إدراك حقيقة طالما أشار إليها الرئيس الأمريكي السابق ترامب، وهي أن الولايات المتحدة لم تعد راغبة في ضمان الأمن الأوروبي.
وأكد وزير الخارجية الإسباني، خوسيه مانويل ألباريس، على ضرورة إعادة تقييم مفهوم الأمن الأوروبي، مشيرًا إلى أن الأمن يشمل جوانب متعددة بجانب الدفاع العسكري. وأوضح أهمية تطوير قدرات دفاعية تكاملية بين دول الاتحاد الأوروبي، وتحديد آليات فعالة لتمويل هذه القدرات، مع التأكيد على ضرورة أن يكون التمويل والاستجابة جماعيين إذا كان التهديد يطال أوروبا ككل.
يرى الباحث روبيرو إدواردو، المختص في الشأن الأوروبي والأطلسي، أن العالم يشهد حقبة جيوسياسية جديدة، حيث جاء ظهور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في توقيت غير مناسب للأوروبيين، إذ أكد على أولوية القيادة الأمريكية وضرورة امتثال الدول لها. في هذا السياق، يسعى الأوروبيون لإيجاد "مفهوم أمني مستقل" عن واشنطن، لكن تحقيق هذا الهدف يبقى في الإطار النظري، في ظل ضغط الرئيس الأمريكي المستمر على أوروبا لاتخاذ قرارات قصيرة الأمد، وهو ما يلقى معارضة من الحلفاء الأوروبيين.
وأمام هذه التحديات، اقترحت أوروبا زيادة ميزانياتها الأمنية دفاعًا عن نفسها، حيث تدرك أنها لا تستطيع الاستمرار دون الاعتماد على القوة العسكرية الأمريكية. تعد الولايات المتحدة أكبر مساهم في ميزانية حلف الناتو، وأي تراجع في دعمها قد يضعف قدرات الحلف الدفاعية، مما يدفع الدول الأوروبية لزيادة إنفاقها الدفاعي لتعويض غياب واشنطن. كما أن ضعف الناتو قد يشجع روسيا على اتخاذ خطوات جريئة تجاه أوكرانيا وأوروبا الشرقية.
تنعكس تداعيات هذا التحول بشكل خاص على أوكرانيا، التي تواجه صعوبة في الاعتماد على الدعم الأمريكي. وفي هذا السياق، يواجه حلف الناتو تحديات كبيرة في إعادة تشكيل دوره. وعلى الرغم من عقد قمتين بين زعماء الاتحاد الأوروبي والناتو بعد فوز ترامب، لم تتمخض هذه الاجتماعات عن استراتيجية موحدة أو صيغة لحل الصراع في أوكرانيا.
بينما يسارع القادة الأوروبيون إلى سد الفراغ الأمني الناجم عن الانسحاب الأمريكي، تراقب روسيا والصين الوضع استعدادًا للاستفادة من الفرص لتعزيز نفوذهما. وقد صرح وزير الدفاع الأمريكي بيت هيجسيث بأن "الولايات المتحدة لم تعد الضامن الأساسي للأمن الأوروبي"، مما أثار صدمة في العواصم الأوروبية، إذ يعد ذلك أول إشعار من واشنطن بأن أوروبا يجب أن تتحمل مسؤولية أمنها بنفسها.
ويرى بعض المحللين أن تردد أوروبا في زيادة إنفاقها الدفاعي يعزز من أهمية الإبقاء على الوجود العسكري الأمريكي. وفي هذا السياق، أكد تقرير صادر عن معهد الدراسات الاستراتيجية في كلية الحرب الأمريكية أن أمن أوروبا "لا يزال يعتمد بشكل أساسي على القيادة والقدرات العسكرية الأمريكية"، مما يضع القارة أمام تحديات في إعادة النظر في سياساتها الدفاعية. ومع ذلك، قد يكون تراجع الوجود الأمريكي هو الدافع لتغيير هذا التردد، إذ سمح الوجود الأمريكي لأوروبا بتجاهل ضعفها الدفاعي طيلة عقود، مما جعلها تعتمد على ضمان التدخل الأمريكي عند الحاجة.
بعد الانسحاب الأمريكي المحتمل، يقلق الحلفاء الأوروبيون من أن تراجع التزامات واشنطن الأمنية قد يؤدي إلى نظام عالمي أكثر اضطراباً وأقل استقراراً. يتزايد خطر الصراعات الإقليمية، خصوصاً في أوروبا الشرقية، حيث يخشى الأوروبيون من أن الانسحاب قد يشجع روسيا على التصعيد ضد أوكرانيا ودول البلطيق، مستفيدة من غياب الردع الأمريكي المباشر.
كان حلف الناتو، بدعم أمريكي، عنصراً أساسياً في استقرار الشرق الأوسط، ومع تراجع الدور الأمريكي، قد تواجه أوروبا صعوبة في تخصيص موارد للدفاع عن أراضيها مع الحفاظ على جهود مكافحة الإرهاب.
تركيز واشنطن على مواجهة الصين في المحيطين الهندي والهادئ قد يصعب عليها الحفاظ على نفوذها في كل من أوروبا وآسيا، مما يخلق اختلالاً جيوسياسياً لصالح الصين وروسيا.
انسحاب الدرع الأمريكي قد يؤدي إلى تصدع التحالف الغربي ويزيد الخلافات بين الدول الأوروبية حول سبل مواجهة التهديدات الأمنية. بعض الدول قد تضطر لتعزيز علاقاتها مع قوى أخرى مثل الصين لضمان أمنها القومي، مما يضعف نفوذ الولايات المتحدة.
اقتصادياً، قد تتأثر الصناعات العسكرية الأمريكية بتقليص الدول الأوروبية مشترياتها من الأسلحة، وقد يدفع ضعف التحالف الغربي أوروبا إلى تطوير صناعاتها الدفاعية وتقليل اعتمادها على واشنطن.
يرى خبراء أن أي انسحاب أمريكي من دعم حلف الناتو قد يغير موازين القوى العالمية ويسبب اضطرابات في أوروبا التي تعتمد على الردع النووي والغطاء الجوي الأمريكي. وقد تغيرت لهجة الولايات المتحدة تجاه روسيا مؤخرًا، مع تأكيد زعماء مجموعة السبع على "عدوان موسكو".
تؤكد التقارير الغربية أن سياسة إدارة ترامب تجاه روسيا قد تؤدي إلى تحول في الخطاب الأمريكي بشأن الحرب في أوكرانيا، حيث يتم وصفها الآن بـ "صراع أوكرانيا" بدلًا من "الحرب".
وفيما يخص المحادثات المحتملة بين ترامب وبوتين، قال وزير الخارجية التشيكي يان ليبافسكي إنه لا يعرف تفاصيل المناقشات القادمة، لكنه أشار إلى التزام أوروبا بالتعاون مع الولايات المتحدة في الأمن الأوروبي.
من جانبه، أبدى رئيس مجلس النواب الأمريكي مايك جونسون معارضة لتمرير قانون جديد لدعم أوكرانيا، مشددًا على ضرورة إنهاء الصراع. وفي الوقت ذاته، شن إيلون ماسك هجومًا على الرئيس الأوكراني زيلينسكي، داعيًا لإجراء انتخابات في كييف.
تسعى الدول الأوروبية لتعزيز قدراتها الدفاعية في ظل القيود المالية. ومن خلال الاستفادة من الضمانات الوطنية، يمكن إنشاء بنك لدعم الإنفاق الدفاعي دون التأثير على الميزانية العامة.
بريطانيا تخطط لزيادة إنفاقها الدفاعي من 2.3% إلى 2.5% من الناتج المحلي، مما يتطلب 5 مليارات جنيه إضافية سنوياً، رغم القيود المالية المفروضة عليها. وتشمل المقترحات فكرة الجنرال نيك كارتر، القائد السابق للجيش البريطاني، بإنشاء "بنك إعادة التسلح" لتمويل الدفاع باستخدام مدخرات أوروبا، على غرار البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية.
مع اقتراب نهاية دور الولايات المتحدة كضامن رئيسي لأمن أوروبا، يبحث القادة الأوروبيون عن إعادة صياغة موازين القوى العالمية. التحولات العسكرية والسياسية في أوروبا تشير إلى أن النظام العالمي القائم على الهيمنة الأمريكية قد بدأ يتصدع، مما يخلق حالة من عدم اليقين الاستراتيجي.