الناتو في مفترق طرق.. التوترات التجارية الأميركية والتحديات الأمنية تضعف وحدة الحلف

في ظل تصاعد التوترات الدولية، ألقت التطورات الأخيرة، وعلى رأسها قرار الإدارة الأميركية برفع الرسوم الجمركية على الواردات، بظلال ثقيلة على اجتماعات وزراء خارجية حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي عُقدت في العاصمة البلجيكية بروكسل. هذا التحول المفاجئ في السياسة الاقتصادية الأميركية كشف عن فجوات واضحة بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين، وأعاد طرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل الناتو ودور الولايات المتحدة فيه.
شرخ في الثقة بين الحلفاء
جاءت هذه الاجتماعات بعد يوم واحد فقط من إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن فرض تعريفات جمركية جديدة، الأمر الذي زاد من حدة التوتر مع الحلفاء الأوروبيين، خصوصًا في ظل شعور متنامٍ لديهم بأن واشنطن أصبحت تتبنى مواقف أحادية دون تنسيق مسبق.
ورغم تطمينات وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بأن الولايات المتحدة "لن تنسحب من الحلف"، فإن لغة الطمأنة لم تكن كافية أمام سياسة متقلبة تثير شكوكًا متصاعدة حول مدى التزام واشنطن بالمادة الخامسة من ميثاق الحلف، خاصة في ظل تجارب مثل الحرب في أوكرانيا، حيث لم تُفعّل هذه المادة رغم التهديدات الواسعة النطاق.
مستقبل الدور الأميركي محل تساؤل
في جلسات مغلقة، أثار عدد من المسؤولين تساؤلات حرجة حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستتخذ موقفًا حازمًا في حال تعرضت إحدى الدول الأعضاء لاعتداء مباشر من روسيا أو غيرها من القوى العالمية الصاعدة، مثل الصين أو إيران أو كوريا الشمالية.
وطرحت في هذا السياق سيناريوهات مقلقة، مثل إمكانية احتلال روسيا لجزء من ليتوانيا، أو تنفيذ تهديدات أميركية سابقة باحتلال جزيرة "جرينلاند" الدنماركية، حيث أن الطرفين عضوان في الحلف.
زيادة الإنفاق الدفاعي.. ضغط أميركي مستمر
وفي تصعيد لسياسة "تقاسم الأعباء"، رفع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو السقف إلى أقصى حد، داعيًا دول الحلف إلى رفع إنفاقها الدفاعي إلى 5% من ناتجها المحلي الإجمالي، مقارنةً بـ2% المتفق عليها سابقًا.
الاقتراح قوبل بحذر، رغم أن دولًا مثل ألمانيا وفرنسا بدأت بالفعل زيادة مساهماتها، بينما ما تزال دول مثل إسبانيا دون هذا المستوى.
تحديات خارجية معقدة.. روسيا والتكامل الدفاعي
من الجانب الآخر، أكد مسؤولو الحلف أن روسيا زادت من إنتاجها العسكري إلى أربعة أضعاف حجم إنتاج الذخائر في أميركا وأوروبا مجتمعتين، مما يكشف عن تحول الاقتصاد الروسي إلى اقتصاد حرب متكامل.
هذه المقارنة الصادمة دفعت بعض القادة داخل الناتو إلى المطالبة بتنسيق الإنتاج الحربي بين الدول الأعضاء، لتفادي التكرار والتنافس التجاري، والتركيز بدلًا من ذلك على التكامل الدفاعي الفعّال.
تحالف الخصوم.. محور مضاد للناتو
برز مصطلح "تحالف الأعداء" بشكل متكرر خلال الاجتماعات، في إشارة إلى التعاون المتزايد بين روسيا، الصين، إيران، وكوريا الشمالية.
وأكّد الأمين العام للناتو، مارك روته، أن وجود قوات كورية شمالية على الأراضي الروسية، واستخدام الطائرات الإيرانية بدون طيار من نوع "شاهد"، أمور تؤكد تطور هذا المحور المعادي للغرب، خصوصًا في ظل ازدياد الهجمات السيبرانية والتدخلات في الانتخابات الأوروبية.
مخاوف من انسحاب أميركي وتشكّل نواة أوروبية مستقلة
إلى جانب القلق العسكري، يتنامى شعور أوروبي بعدم الاستقرار الاستراتيجي في ظل احتمال انسحاب الولايات المتحدة عسكريًا من أوروبا.
ويبدو أن إدارة ترمب ترى في تكاليف الدفاع عن القارة عبئًا على الاقتصاد الأميركي، وتفضّل إعادة توجيه مواردها نحو الداخل الأميركي ومواجهة الصين اقتصاديًا.
هذه السياسة دفعت دولًا أوروبية إلى التفكير جديًا في تقوية النواة الأوروبية داخل الناتو، بل وحتى التفكير في تشكيل نواة دفاعية مستقلة. وقد بدأت فعليًا بعض الدول بزيادة دعمها لأوكرانيا وتوسيع استثماراتها في الصناعات العسكرية.
احتمالات سباق تسلح أوروبي
لكن هذا التوجه ليس خاليًا من المخاطر؛ إذ حذّر بعض المحللين من أن انسحاب المظلة الأميركية قد يفتح الباب أمام سباق تسلح داخل أوروبا نفسها، في ظل فقدان التنسيق وارتفاع النزعة القومية العسكرية.