محادثات باريس وتباين المسارات.. هل تتحول المبادرة الأمريكية إلى فرصة أم عبء في ملف الحرب الأوكرانية؟

في تطور جديد يعكس حجم التعقيد في الحرب الروسية - الأوكرانية، اعتبر الكرملين أن اجتماع باريس، الذي ضم ممثلين عن الولايات المتحدة وأوكرانيا ودول أوروبية، فرصة مهمة للمبعوث الأمريكي الخاص، ستيف ويتكوف، لإطلاع الحلفاء على آخر تطورات المحادثات الرامية إلى تسوية سلمية محتملة.
المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، كشف أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أجرى محادثات "مطوّلة" مع ويتكوف الأسبوع الماضي، مما يشير إلى أن هناك تحركاً دبلوماسياً نشطاً يجري خلف الكواليس، ربما بعيداً عن الضوضاء الإعلامية المعتادة. ولكن، وعلى الرغم من هذه اللقاءات، يرى الكرملين أن الموقف الأوروبي لا يزال منغمساً في تصعيد الصراع، وليس في تهدئته، ما يعكس تبايناً حاداً في الرؤى بين موسكو والعواصم الغربية حول كيفية إدارة الأزمة.
زيارة كبار المسؤولين الأوكرانيين إلى باريس، دون إعلان مسبق، واجتماعهم بممثلين أوروبيين والوزير الأمريكي ماركو روبيو، تكشف عن محاولات أوكرانية لإعادة ضبط مواقف الحلفاء الغربيين بعد أن بدأت كييف تلمس مؤشرات على انفتاح أمريكي أكثر مرونة تجاه روسيا – ما قد يُفسَّر في نظرها كخطر سياسي واستراتيجي.
التحركات الدبلوماسية المكثفة هذه تعكس قلقاً أوروبياً متزايداً من الانفراد الأمريكي بالتفاوض مع موسكو، في ظل فشل الرئيس الأمريكي السابق والمرشح الرئاسي الحالي دونالد ترامب – الذي دعم ويتكوف كمبعوث – في تحقيق أي اختراق حقيقي لوقف إطلاق النار رغم تعهداته المتكررة بـ"إنهاء حمام الدم".
لقاء بوتين وويتكوف الأخير في سان بطرسبيرغ، والذي امتد لأكثر من أربع ساعات، يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت موسكو ترى في ويتكوف قناة اتصال واعدة، أم مجرد وسيلة أمريكية لشراء الوقت والتأثير في المشهد الداخلي الأوكراني والأوروبي على السواء.
ومع إصرار روسيا على أن التسوية "ليست سهلة"، يبدو أن أي مسار دبلوماسي حالي سيظل هشاً ما لم يتم التوافق على معايير واقعية ومقبولة من جميع الأطراف، خاصة في ظل اتساع الفجوة بين الرغبة الأمريكية في الهدنة، والنهج الأوروبي الأكثر تشدداً، والموقف الأوكراني القائم على استرداد كامل الأراضي.
صراع ممتد بجذور ما قبل 2014
تعود جذور الأزمة الأوكرانية إلى ما قبل اندلاع الحرب الشاملة في فبراير 2022. فالصراع بين موسكو وكييف تفجّر عملياً منذ عام 2014، بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم ودعمها للانفصاليين في دونباس. هذه الأحداث كانت نقطة تحول مفصلية في العلاقات بين روسيا والغرب، وأعادت إحياء مفاهيم الحرب الباردة والنفوذ الجيوسياسي في شرق أوروبا.
أوكرانيا، التي كانت لسنوات ساحة تجاذب بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، اختارت مسار الانحياز للغرب منذ "ثورة الميدان" عام 2014، ما عمّق الفجوة مع موسكو، التي اعتبرت ذلك تهديداً مباشراً لأمنها القومي وامتداداً للناتو على حدودها.
الحرب التي اندلعت عام 2022 تحوّلت تدريجياً إلى حرب استنزاف كلاسيكية، أنهكت الطرفين، وأعادت تشكيل خريطة التحالفات الأوروبية، ودفعت فنلندا والسويد إلى التخلي عن عقود من الحياد والانضمام إلى الناتو. لكنها، في الوقت نفسه، فتحت الباب أمام تساؤلات حول حدود الدعم الغربي، خاصة مع دخول الحرب عامها الثالث دون مؤشرات حقيقية على الحسم.
الآثار المحتملة لهذا الحراك الدبلوماسي
إعادة رسم الأولويات الغربية: قد يكون الحراك الأمريكي مقدمة لإعادة ترتيب الأولويات، بحيث يتم دفع كييف نحو تسوية واقعية، تتضمن تنازلات، مقابل ضمانات أمنية أطول مدى.
تشظي الجبهة الغربية: استمرار هذا النهج قد يؤدي إلى تصدعات في الموقف الغربي، لا سيما بين أوروبا الوسطى (مثل بولندا ودول البلطيق) التي ترفض أي تنازل، وبين القوى الكبرى كفرنسا وألمانيا، التي قد تتبنى نهجاً أكثر براغماتية.
تحولات في الداخل الأوكراني: إذا ما شعرت كييف أن واشنطن تميل لتخفيف الضغط على موسكو، فقد نشهد صعود تيارات سياسية داخل أوكرانيا تعارض "تسوية غير متكافئة"، أو حتى انهيار الثقة بالرعاية الغربية.
تعزيز موقف روسيا التفاوضي: روسيا، التي تراهن على الوقت وعلى إنهاك الغرب، قد ترى في هذا التقارب الأمريكي دليلاً على صوابية رهانها، مما يجعلها أكثر تصلباً في المفاوضات، ويُطيل أمد الحرب بدل أن يقصرها.