قطع المساعدات لوكالة الأنروا مساهمة في جريمة الإبادة الجماعية
تنكيل الشعب الفلسطيني لتقويض قدرته على الصمود في جه الاحتلال
بقلم: دكتورة بسمة محمود
جاء قرار الإدارة الأمريكية وعشرة دول أوروبية بتعليق مساعداتها لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" بمثابة طعنة قاتلة لقدرة 2.3 مليون نسمة في قطاع غزة المحتل على البقاء، وبالتالي مساهمة عملية كاملة في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية التي يصر الاحتلال الإسرائيلي على المضي فيها قدماً.
ومن الناحيتين القانونية والمهنية البحتة، لا يجوز اتخاذ مثل هذا القرار المنحرف على أساس شبهات غير مؤكدة قدمتها سلطات الاحتلال الحربي الإسرائيلي في سياق عدوانها الهمجي على المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، حيث جاءت القرار بتعليق المساعدات مبنياً على انخراط بعض موظفي وكالة الأونروا في هجمات حركة حماس في 7 أكتوبر/تشرين أول 2023.
كما أنه لو صحت هذه الإدعاءات التي صاغهتها رواية الاحتلال، فلا يمكن اتخاذ هذا القرار بحق الجهة الأممية الأبرز التي تقود العمل الإنساني في القطاع المحتل، وتوفر المساعدات لأكثر من 2 مليون منكوب، بينهم 1.9 مليون نازح بلا مأوى، ويفتقدون لأبسط سبل البقاء على قيد الحياة في ظل العدوان والحصار الإسرائيلي والقيود التي يفرضها الاحتلال على تدفق المساعدات، بالتوازي مع استمرار العدوان وسقوط أكثر من 26 ألف قتيل مدني وإصابة نحو 70 ألفاً آخرين.
ويشكل المساس بقدرة وكالة الأونروا على الاستمرار في النهوض بدورها تنكيلاً بنحو 5.6 مليون لاجئ فلسطيني يعتمدون على الخدمات التي توفرها الوكالة الأممية في كل من غزة والقدس والضفة والأردن وسوريا ولبنان.
ويبلغ عدد موظفي وكالة الأونروا نحو 30 ألفاً، غالبيتهم داخل الأاضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967 من المدنيين الفلسطينيين، وتعد وكالة الأونروا ثاني أهم مصادر الدخل للأسر الفلسطينية في تلك الأراضي بعد السلطة الفلسطينية، ويشمل هؤلاء الأطباء والمعلمون والإداريون والتقنيون.
ويأتي هذا القرار الخطير في وقت بلغ عدد من قتلتهم قوات الاحتلال 152 موظفاً بوكالة الأونروا، بالإضافة إلى أكثر من 350 من الطواقم الطبية، و120 من الإعلاميين، ودمرت 90 بالمائة من البنية التحتية في قطاع غزة، بما يشمل 33 من المستشفيات الـ36 في القطاع، وأكثر من 50 مركز طبي والمئات من سيارات الإسعاف، مع الحد من تدفق المساعدات الذي أدى لمنع سبل الحياة عن السكان، ومن بينهم 400 ألف مدني لا يزالون في مناطق شمال قطاع غزة ويفتقدون لأبسط مقومات الحياة، حيث تمنع قوات الاحتلال الحربي الإسرائيلي وصول أي قدر ونوع من المساعدات إليهم، على نحو أدى إلى العشرات من الوفيات جوعاً، وفي غياب المأوى الملائم.
ومنذ نوفمبر/تشرين ثان 2023، استأنفت سلطات الاحتلال الحربي الإسرائيلي محاولاتها السابقة لتصفية قضية اللاجئين التي تشكل وكالة الأونروا رمزاً لها، فقامت بشن حملة تحريض ممنهجة ضد الوكالة، ووجهت اتهاماً بمشاركة (12) من موظفيها في "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين أول 2023، وهو ما دفع الأنروا إلى إنهاء عقود بعض العاملين لديها، وفتح تحقيق فوري من أجل التوصل إلى الحقيقة، لكن سلطات الاحتلال قررت تجميد عمل الوكالة في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وُلدت وكالة الأونروا من رحم النكبة الفلسطينية في العام 1948، تأسست في 8 ديسمبر/كانون أول 1949، بموجب قرار صادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة برقم (302)، بهدف تقديم برامج الإغاثة المباشرة والتشغيل للاجئي فلسطين، وبدأت الوكالة عملياتها في الأول من شهر مايو/أيار 1950، وتعد الأنروا واحدة من أكثر المؤسسات الأممية الفاعلة والتي يستفيد من خدماتها حالياً 5.6 مليون ضحية فلسطيني، وتحصل الأنروا على تمويل شبه كامل من المساهمات الطوعية للدول.
وبرز التحريض الإسرائيلي على الوكالة الأممية خلال العدوان الجاري على قطاع غزة، من خلال التصريحات العلنية لقيادات سلطة الاحتلال العدوانية ضد الوكالة، وباستهداف مراكز الوكالة بما في ذلك مسئوليها، ومقراتها، ومؤسساتها، وإمكانياتها.
وتأتي مزاعم الاحتلال الإسرائيلي بشأن الوكالة بعد أن كشفت تقارير الأونروا عن المجازر الوحشية التي ارتكبها العدوان الإسرائيلي بحق المدنيين، لا سيما النازحين في مراكز الإيواء التابعة للوكالة، كما كشف أن غالبية ضحايا هذه المجازر هم من النساء والأطفال، كما فضحت الوكالة حملات الاعتقال الممنهجة للاحتلال الإسرائيلي حيال المدنيين الذين لجأوا إلى هذه المراكز.
وتنفذ سلطات الاحتلال الإسرائيلي حملة منسقة منذ العام 1998 من أجل إضعاف وتقويض قدرة وكالة الأونروا تمهيداً لحلها نهائياً للتخلص من "حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة لمنازلهم والتعويض" بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لسنة 1948، حيث سعت في العام 1999 تزامناً مع مفاوضات "كامب ديفيد 2" للحصول على موافقة منظمة التحرير الفلسطينية على عودة بضعة آلاف من اللاجئين الفلسطينيين إلى الأراضي التي احتلتها في العام 1967 بالتوازي مع محاولة الإدارة الأمريكية أنذاك إقناع الأمم المتحدة بإحالة المسئولية عن اللاجئين الفلسطينيين خارج الأراضي الفلسطينية لولاية المفوضية السامية لشئون اللاجئين وتوفير دعم مالي ضخم على نحو يؤدي لحل وكالة الأونروا.
وخلال الفترة الماضية، صرح وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي "يسرائيل كاتس" مراراً أن حكومة الاحتلال ستسعى لـ"منع الأونروا من العمل في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، وأنها لن يكون لها دور في المرحلة التي تلي الحرب".
واتصالاً بهذه السياسة العدوانية المنهجية، استهدفت قوات الاحتلال الحربي الإسرائيلي في سياق عدوانها أكثر من 80 منشأة تابعة لوكالة الأونروا، كان من آخرها العدوان على ملجأ الأونروا في خان يونس في 25 يناير/كانون ثان 2024، والذي أسفر عن مقتل (13) مدنياً كانوا ينتظرون الحصول على المساعدة الإنسانية. وأكد المفوض العام للأونروا "فيليب لازاريني" حينها أن الملجأ معروف وتمت مشاركة إحداثياته بوضوح مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
وكان "لازاريني" قد حذر من مغبة الطرد الجماعي لسكان القطاع إلى مصر، مؤكداً أن الاحتلال يرسي الدعائم اللازمة لتحقيق جريمة التهجير القسري للسكان، كما حذر من أن المرحلة القادمة وفي ظل الدمار الواسع الذي أحدثه الاحتلال الإسرائيلي في شمال القطاع، وأدى إلى النزوح إلى الجنوب، هو المرحلة الأولى من المخطط، بينما المرحلة القادمة تستهدف تهجير الفلسطينيين من مدينة خان يونس الجنوبية إلى الحدود المصرية، وهو ما يؤسس لنكبة فلسطينية ثانية، فضلًا عن ضم غزة إلى إسرائيل.
وتؤكد المنظمة العربية لحقوق الإنسان على إدانتها لقرار الدول الغربية بقطع المساعدات عن وكالة الأونروا، ومن دون انتظار نتائج تحقيقات الأمم المتحدة في المزاعم الإسرائيلية، وهو ما يدعم حق المنظمة في اتهام تلك الدول بالمساهمة في العدوان الإسرائيلي وفي تنفيذ جرائمه، وفيب مقدمتها جريمة الإبادة الجماعية.
وتؤكد المنظمة أن تعليق المساعدات لوكالة الأونروا يشكل عقبة أمام تطبيق الأمر الصادر عن محكمة العدل الدولية في 26 يناير/كانون ثان الجاري، والمتعلق باتخاذ تدابير فورية وفعالة تهدف إلى منع إلحاق ضرر لا يمكن إصلاحه بحقوق الفلسطينيين، عبر توفير الخدمات الأساسية والمساعدة الإنسانية لمعالجة ظروف الحياة التي يواجهها الفلسطينيون في قطاع غزة، وهو القرار الملزم يتطلب استجابة فورية من كافة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
وتدير وكالة الأونروا حالياً ملاجئ دائمة ومؤقتة تضم أكثر من مليون فلسطيني في قطاع غزة، وتعمل على توفير الغذاء والرعاية الصحية الأولية، فيما يواصل حوالي (3000) موظف أساسي من أصل (13000) في غزة القيام بمهامهم، ويعملون على منح المجتمعات هناك شريان صغيراً للحياة يمكن أن ينهار في أي وقت بسبب نقص التمويل.
وتؤكد المنظمة أن جهود وكالة الأونروا تمثل أولوية قصوى من الناحية الإنسانية والاغاثية، وتقويض دورها يشمل كذلك إقصاء المؤسسات الأممية التي تشهد على جرائم الإبادة والوحشية التي تمارسها قوات الاحتلال في قطاع غزة.
وتطالب المنظمة العربية لحقوق الإنسان المجتمع الدولي بتحمل مسئولياته في معالجة الأسباب الكامنة وراء الوضع الراهن الذي يعود لاستمرار الاحتلال، والعمل فوراً على إنهاء خطر الإبادة الجماعية وغيرها من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يواصل الاحتلال الإسرائيلي ارتكابها بحق المدنيين الفلسطينيين، وكذا إنهاء الفصل العنصري الإسرائيلي.
وتدعو إلى التقيد والامتثال التام بالتدابير الأولية التي أقرتها محكمة العدل الدولية في 26 يناير/كانون ثان 2024، والسماح بإيصال الساعدات الإنسانية التي تمثل احتياجاً ماساً بحياة 2.3 مليون مدني فلسطيني في قطاع غزة دون أية عوائق.
وتطالب بالعمل فوراً على تفعيل قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 194 لعام 1948، والقرار 2535 لعام 1969، والقرار 3236 لعام 1974.
وتطالب المنظمة الدول العربية – ودون إبطاء - بتحمل مسئولياتها وتعويض النقص الذي تحتاجه وكالة الأونروا للاستمرار في تقديم خدماتها المنقذة للحياة في قطاع غزة.