التحرر الذاتي والحركة الوطنية الفلسطينية.. مفاهيم ملائمة للوضع الفلسطيني الراهن
صدرت دراسة بعنوان "التحرر الذاتى والحركة الوطنية الفلسطينية: مفاهيم ملائمة للوضع الفلسطينى الراهن"، أعدها د.عبدالعليم محمد، مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
تستهدف الدراسة تشخيص المفاهيم المركزية التى رافقت حركة التحرر الوطنى الفلسطينى فى نسختها المعاصرة؛ تلك التى بدأت مع انطلاقة حركة "فتح" عام 1965 والفصائل الفلسطينية المُقاوِمة وانضمامها إلى منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها لها منذ عام 1969، ولعبت هذه المفاهيم المركزية دورا أساسيا فى تحديد دوائر الحركة الفلسطينية على الصعيد الداخلى والعريى والدولى والإقليمى، ومثلت مرجعية نظرية وفكرية لتوجيه النضال الفلسطينى.
هذه المحاولة لتشخيص المفاهيم ليس الهدف منها التذكير بها فحسب، بل تأكيد قدرتها وفاعليتها فى الممارسة الميدانية والعملية فى تحقيق المنجزات والمكتسبات للحركة الوطنية الفلسطينية، وتعزيز مواقعها على الخريطة الدولية كحركة تحرر وطنى حازت السبق فى الاعتراف القانونى من قبل المجتمع الدولى ممثلا فى هيئة الأمم المتحدة وجمعيتها العامة.
وتجمع هذه الدراسة بين إثبات الفاعلية والتأثير لهذه المفاهيم فى المرحلة التأسيسية للنضال الفلسطينى، فى العقود التى تلت ظهور "فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية، وأهلية وملاءمة هذه المفاهيم أو العديد منها لإنقاذ الموقف الفلسطينى، وإعادة تأسيس الحركة الوطنية الفلسطينية وتجنب غموض مسار أوسلو والتباسه.
ترصد الدراسة العديد من هذه المفاهيم المركزية، من بينها الفكرة الوطنية الفلسطينية الجامعة كبديل للأيديولوجيات التى تختزل الواقع، وكذلك مفهوم التفوق الأخلاقى الذى ميز مسار الحركة الوطنية الفلسطينية فى مواجهة أعدائها؛ إسرائيل والصهيونية، وكذلك مفهوم بناء الوعى المزدوج بالهوية الوطنية الفلسطينية من جانب وبطبيعة الصراع مع إسرائيل ككيان استيطانى عنصرى، والتكامل بين التحرر الفلسطينى والتحرر العالمى وغيره من المفاهيم، والتى تمثل عينة للمنظومة المفهومية التى اعتمدتها حركة التحرر الوطنى الفلسطينى.
وعلي الرغم من أن هذه الدراسة قد تم إنجازها قبل عملية "طوفان الأقصى" فى السابع من أكتوبر عام 2023، والعدوان الذى لحقها على الشعب الفلسطينى فى غزة، والمقاومة الفلسطينية والمستمرة منذ ذلك التاريخ وحتى الآن؛ إلا أن تداعيات عملية "طوفان الأقصى" والمواجهة غير المتكافئة بين المقاومة وبين جيش الاحتلال الصهيونى قد دفعت إلى الصدارة وجدول الأولويات، إن على الصعيد الفلسطينى أو العربى أو الدولي، جملة القضايا التى أثارتها هذه الدراسة وانتهت إلى تشخيص للمشكلات التى تواجه النضال الفلسطينى والحركة الوطنية الفلسطينية، خاصة فى ظل انزياح المجتمع الإسرائيلى نحو اليمين وقيمه، وصعود الائتلاف الدينى والقومى المتطرف منذ ديسمبر عام 2022 فى انتخابات الكنيست الأخيرة. ومن بين هذه القضايا إنهاء الانقسام ورصد آثاره فى الواقع، وضرورة توحيد الموقف الفلسطيني، وكذلك إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، وبناء النظام السياسى الفلسطينى على أسس ديمقراطية ومن خلال الانتخابات واعتماد قاعدة ومبدأ الأغلبية الديموقراطية، وكذلك الفصل بين السلطة الوطنية وبين منظمة التحرير الفلسطينية صاحبة الولاية عليها، واعتبار المنظمة هى الوعاء التمثيلى الأكبر والأهم فى النضال الفلسطيني، وضرورة استئناف نشاط المنظمة إن فى الداخل بصورة محدودة أو فى الخارج بصورة أكبر، وفى نفس الوقت ضرورة انضمام منظمات المقاومة الإسلامية كحركة "حماس" و"الجهاد الإسلامى" إلى هياكل ومؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية واعتبار ذلك ضرورة وطنية إن من حيث أهداف النضال الوطنى أو من حيث الحفاظ على هذه المنظمات واستيعابها فى ديناميكية النضال الفلسطينى وانتشالها من المتربصين بها إقليميا ودوليا لوضعها فى إطار الإرهاب، على غرار ما فعلت إسرائيل عقب "طوفان الأقصى"، حيث ربطت بين داعش وحماس والحادى عشر من سبتمبر عام 2001، بهدف استحضار رد فعل دولى على غرار ما حدث مع التحالف الدولى ضد داعش أو رد الفعل الأمريكى ضد إرهاب القاعدة.
ولا شك أن هذه المصادفة وذلك التشابه بين القضايا الُتى طرحت فى أعقاب طوفان الأقصى والعدوان الإسرائيلى على المقاومة وغزة ومحاولة تنفيذ خطط التهجير ومخطط الحسم وغيرها من الأهداف الإسرائيلية المعلنة وغير المعلنة، وبين القضايا التى تطرقت إليها هذه الدراسة، لا يعود إلى التنبؤ والاستشراف، بل يعود فى المقام الأول إلى أن هذه القضايا هى قضايا مفصلية فى الشأن الفلسطينى، ومدار مناقشات وحوارات فلسطينية- فلسطينية، وفلسطينية- عربية، وحتى دولية، بيد أن الكشف عنها وصدارتها لجدول الأعمال الفلسطينى والعربى والدولى مدين لطوفان الأقصى والمقاومة الباسلة للمقاتلين الفلسطينيين وحركات المقاومة وصمود الشعب الفلسطينى فى مواجهة جيش احتلال يحتل مرتبة متقدمة فى صفوف الجيوش الكبرى فى العالم وفقا للمعاهد المتخصصة فى دراسات التسليح والجيوش.
جهد الباحث يتمثل فى متابعة هذا الحوار عن قرب وملاحقة تفاصيله وملفاته وإبراز القضايا الصريحة والمضمرة فى ثنايا هذا الحوار وإلقاء الضوء عليها من المنظور الوطنى والقومى والإنسانى والوجدانى وليس من منظور المراقب المحايد.
تنقسم هذه الدراسة إلى ثلاثة أجزاء، الأول منها يعالج المفاهيم ويوضح أبعادها وتأثيرها، والثانى يتعلق بمدى ملاءمة وأهلية هذه المفاهيم وصلاحيتها -رغم اختلاف الظروف عن ذى قبل- للتطور الحالى فى الحركة الوطنية الفلسطينية. أما الجزء الثالث فيعالج تفعيل الأداء وإعادة هيكلة النضال الفلسطينى وحركة التحرر الفلسطينية واستشراف آفاق الحلول الممكنة وتجديد الهياكل التنظيمية للنضال الفلسطينى الرسمى والشعبى.
أولاً: التحرر الذاتي في الحالة الفلسطينية
مرت حركة التحرر الوطني الفلسطيني في مسارها الطويل منذ عقد العشرينيات من القرن العشرين، وحتى الآن بمراحل مختلفة قبل وبعد النكبة وإنشاء دولة إسرائيل الصهيونية، مارست فيها كافة أشكال النضال السلمية، من تأسيس الأحزاب والاحتجاج والعصيان المدني والمقاومة في ثورة 1936، وكذلك النضال الدبلوماسي من خلال حضور المؤتمرات الدولية أو ما يسميه بعض الباحثين "دبلوماسية الوفود والمذكرات"، من خلال الهيئات والتنظيمات التي تطلعت لتمثيل الشعب الفلسطيني كـ"الهيئة العربية العليا" وحكومة عموم فلسطين.
ورغم تراكم موروث الحركة الوطنية الفلسطينية عبر هذه العقود، فإن العديد من السلبيات رافق هذا الموروث الكفاحي، في مقدمته أن الهيئات التي قادت الكفاح الفلسطيني في هذه الفترة لم تتحصل على التمثيل الكافي للتحدث باسم الشعب الفلسطيني، من ناحية أخرى فإن هذه الحركة عانت من الخلافات والمناكفات بين القيادات المختلفة، وكذلك تعرضت لضغوط عديدة من قبل بعض البلدان العربية.
مثّل ظهور"حركة فتح" في عام 1965 في المشهد الفلسطيني والعربي، نقطة فارقة في تاريخ حركة التحرر الفلسطيني، وجاء ذلك بعد تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964، وقبل تصدرها حركات المقاومة المسلحة وسيطرتها على منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1969، وظهور القيادة الفلسطينية الممثلة في الزعيم الوطني الراحل ياسر عرفات كرئيس للجنة التنفيذية للمنظمة، وكان ذلك إيذانا ببدء مرحلة جديدة في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني، والتي مثلت نقلة نوعية مختلفة عما قبلها من مراحل، إن على الصعيد التنظيمي أو الكفاحي أو الفكري أو السياسي والميداني.
وهذه الأهمية التي حظيت بها منظمة التحرير الفلسطينية وحركات المقاومة الفلسطينية وبالذات حركة "فتح"، التي انضمت إلى منظمة التحرير وقادتها، لم تنبع من فراغ، وإنما لأن المنظمة والحركة الوطنية الفلسطينية تحت قيادتها، قد تبنت مقاربة مفاهيمية استوعبت الواقع الوطني الفلسطيني كما الواقع العربي والإقليمي وكذلك الظروف الدولية على حد سواء. وتتلخص وظيفة المفاهيم في حالة الحركة الوطنية الفلسطينية في توجيه الكفاح الوطني وحدوده وآلياته، كما أنها تساعد في إضاءة الطريق ومعالجة العقبات التي تعترض هذا الكفاح، وتحدد المجالات النوعية لتعزيز مواقع الكفاح الوطني. كما أنها تساهم في إخراج العطاء الوطني الكامن والمحتمل إلى حيز الممكن والواقع، وذلك من خلال استبطان هذه المفاهيم وتمثلها والاسترشاد بها في الممارسة العملية.
وهذه المفاهيم التي استرشدت بها الحركة الوطنية الفلسطينية تحت قيادة منظمة التحرر الفلسطينية في نضالها وأدائها وممارساتها، هي جزء لا يتجزأ من عملية التحرر الذاتي للحركة الوطنية الفلسطينية، بل وأحد إنجازات هذه الحركة، والتي ساهمت في حصيلة المنجزات التى تمكنت المنظمة والشعب الفلسطيني من تحقيقها عبر هذه العقود منذ 1969 وحتى الآن.
في التاريخ الاستعماري المظلم ترافق المدفع والبندقية والعلم والتكنولوجيا والتبشير؛ لإخضاع الشعوب المستعمرة، فالمدفع والبندقية لكسر شوكة مقاومة الغزو والاستعمار، والعلم ومنتجات الحداثة لغواية ذوي الفضول والخيال من أبناء هذا الشعب، أما التبشير فهو لإزاحة الثقافة الوطنية والمعتقدات المحلية وانتزاع هذه الشعوب من ثقافتها.
ولتبرير الاستعمار لجأت المؤسسة الاستعمارية الثقافية لترويج بعض الرسائل باعتبارها الغاية المعلنة للاستعمار، والتي تتناقض مع محتوي ومضمون وأهداف الاستعمار الحقيقية؛ مثل الادعاء بأن الرجل الأبيض له رسالة حضارية ومهمة حضارية تستهدف الارتقاء بالشعوب المستعمرة، أو نشر الحداثة والديمقراطية في البلدان المستعمرة، أو أن الدول الاستعمارية بحكم امتلاكها للعلم والمعرفة بمقدورها أن تعرف الشعوب المستعمرة على نحو دقيق وعلمي بأكثر مما تعرف هذه الشعوب عن نفسها.