كرامات نفيسة العلم
يتزامن ميلادها بالشهر نفسه الذي وُلد فيه جدها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فقد وُلدت بشهر ربيع الأول وتُوفيت بعمر النبي نفسه تقريبًا في الثالثة والستين، لها في قلوب المصريين مكانة خاصة جدًّا حتى إنهم قالوا في مدحها:
بالله يا أم العلوم وأصلها أنى سألتك نظرة جودي بها
من ذاق منك الحب قد حاز العلا وأشرقت فيه المعارف والبها
وكيف لا تكون لها هذه المكانة وهي نفيسة العلم والمعرفة التي دُفنت في مصر بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وفي السطور التالية نلبي دعوة الكتابة عن ستنا الشريفة الكريمة لعل وعسى يصيبنا من نورها سهم ومن حبها جانب.
وُلدت نفيسة بنت الإمام الحسن الأنور بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب بمكة في 11 من ربيع الأول عام 145هجريًّا، وفي يوم مولدها طغت الفرحة على والديها، خاصة والدتها أم سلمى الملقبة بأم ولد لكونها لا تنجب إلا الذكور؛ فقد جاءت السيدة نفسية بعد عشرة من الذكور ففرحت أمها فرحًا كبيرًا، وكان أبوها يتمنى البنت، وذلك لقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: "من كانت له ثلاث بنات يؤدبهن ويكفلهن ويرحمهن وجبت له الجنة، فسأله الصحابة ولو كانت اثنتين؟ فقال ولو كانت اثنتين، فقالوا ولو كانت واحدة؟ فقال النبى ولو كانت واحدة". لذا؛ فعندما زُفت البشرى إلى والدها أسماها نفيسة؛ لأنها بمنزلة الدرة النفيسة والبنت الوحيدة بعد عشرة ذكور، ولم يكد ابن الأنور يبرح مكانه بالكعبة بعد بشرى نفيسة حتى جاءته البشارة الأخرى، وهي إسناد ولاية المدينة المنورة إليه مع منحة قدرها عشرون ألف درهم.
عندما سمع ابن الأنور بشرى ميلاد ابنته رفع يده إلى السماء قائلًا: "اللهم أنبتها نباتًا حسنًا وتقبلها قبولًا حسنًا طيبًا واجعلها من عبادك الصالحين وأوليائك المقربين الذين تحبهم ويحبونك"، فكانت أبواب السماء مفتوحة والدعاء مستجابًا، ولازمت الابنة أباها في نسكه وعبادته وحلقات علمه حتى انتقل بها إلى المدينة المنورة، وهي في الخامسة من عمرها فكانت تذهب إلى المسجد النبوي وتستمع إلى شيوخه وتتلقى الحديث والفقه من علمائه حتى لقبها الناس بنفيسة العلم قبل أن تتخطى مرحلة الطفولة، وذلك بعدما أتقنت القراءة والكتابة وهي لم تبلغ السابعة وحفظت القرآن كاملًا وجودته وهي في الثامنة.
فاض اكتمال الجمال والبهاء على التقوى والورع فتهافت شباب آل البيت على ابن الأنور آملًا في الفوز بنفيسة العلم والمعرفة بينما الأب يرفض رفضًا قاطعًا قائلًا: "إني أريد أن أؤدي الأمانة إلى أهلها وأرد القطرة إلى بحرها وأغرس الوردة في بستانها" حتى تقدم لخطبتها جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان ملقبًا بالمؤتمن لما عُرف عنه من شدة أمانته وإيمانه، فرفض الأب كعادته، وانصرف إسحاق إلى مسجد رسول الله يدعو في محرابه ليأتي الصباح برسول من والد نفيسة يخبره بقبول طلبه، وذلك بعدما رأى ابن الأنور رسول الله في منامه يوصيه بتزويج نفيسة للمؤتمن، وتم الزواج في رجب 161هجريًّا وسافر إسحاق بصحبة زوجته إلى مكة المكرمة، وهامت نفسها بزيارة مقام الخليل إبراهيم فصحبها زوجها لزيارته، ثم طلبت زيارة مصر فآتى بها المؤتمن إلى مصر يوم 26 من رمضان 193هجريًّا، وكانت شهرتها قد سبقتها فخرج الناس لاستقبالها على أبواب مصر عند مدينة العريش في أفراح لم يُسبق لها مثيل، وأقبلوا عليها يلتمسون منها العلم والمعرفة حتى كادوا يشغلونها عن عباداتها فخرجت عليهم قائلة: "كنت قد اعتزمت المقام عندكم، وقد تكاثرت حولي الناس فشغلوني عن أورادي وجمع زاد معادي وقد زاد حنيني إلى روضة جدي المصطفى"؛ ففزعوا لقولها ورفضوا رحيلها حتى تدخل والي مصر وقال لها: "يا ابنة رسول الله إني كفيل بما تشكين منه" ووهبها دارًا واسعة، وحدد يومين في الأسبوع يزورها الناس فيهما طلبًا للعلم والنصيحة، وحين وُلِّيَ زوجها على المدينة طلب منها مرافقته فاستأذنته بالبقاء في مصر، وفي غربة الأب تمرض الابنة أم كلثوم وتموت، وبعدها شقيقها الصغير قاسم، ولا يعود إسحاق رغم مراسيلها إليه وكان قد تزوج وأنجب في المدينة.
عُرف عن السيدة نفيسة نصرتها للمظلوم وشدة تمسكها بالعدل، واستغاث بها الناس في مصر من ظلم ابن طولون، فاعترضت موكبه فلما رآها ترجل عن فرسه، فقالت إليه: "ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، ورُدت إليكم الأرزاق فقطعتم؛ فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا بالله مستجيرون"؛ فعدل ابن طولون في وقته.
ومن كرامات السيدة نفيسة أنه عندما توقف النيل عن الزيادة في زمنها حضر إليها الناس طلبًا للدعاء فدفعت بوشاحها إليهم، وقالت ألقوه في النيل، فلما ألقوه؛ زاد منسوبه حتى بلغ الله به المنافع. وكان الإمام الشافعي إذا مرض يرسل لها رسولًا من عنده يسألها الدعاء فتدعو له فلا يرجع إليه رسوله إلا وقد عُوفي، فلما مرض الشافعي مرضه الأخير أرسل لها رسوله فقالت: "متعه الله بالنظر لوجهه الكريم"، ورحل الإمام الشافعي بعدها.
ومن كراماتها أيضًا حينما قدمت إلى مصر ونزلت بدار يجاورها فيها يهود كان من بينهم امرأة لها ابنة قعيدة لا تقدر على الحركة، واشتهت الفتاة أن تبقى عند الجارة الشريفة فاستأذنت الأم من السيدة نفيسة فأذنت لها فحملتها ووضعتها في زاوية البيت، وذهبت فقامت السيدة نفيسة وتوضأت فجرى ماء وضوئها إلى البنت اليهودية فألهمها الله أن أخذت بماء الوضوء ومسحت به على قدميها فشُفيت بإذن الله، وحين أخبرت البنت أمها بما حدث معها قالت: هذا والله صحيح الدين فإذا كانت هذه بركة وضوء السيدة نفيسة فكيف بوضوء الرسول الأعظم؟ فدخلت على السيدة نفيسة بصحبة زوجها وأشهرا إسلامهما، ثم شاع خبر البنت وإسلام والديها، فأسلم جماعة اليهود الذين كانوا يعيشون معهم، وقيل إنهم كانوا 70 ألف يهودي.
ويُحكى أنه كان في حياتها أمير ظالم فطلب رجلًا ليعاقبه، وكان الرجل مظلومًا، فمر بالسيدة نفيسة واستجار بها وطلب منها الدعاء، فقالت امضِ، حجب الله عنك أبصار الظالمين، فمضى الرجل مع الجنود إلى الأمير الظالم إلى أن وقفوا بين يديه فسألهم أين الغلام فعجبوا، وقالوا إنه واقف بين يديك، فقال والله ما أراه، فقصوا عليه ما دعت له به السيدة نفيسة، فقال الأمير، وبلغ من ظلمي هذا كله أن يحجب عني المظلوم؟! يا رب إني تائب إليك.
بعد رحيل الإمام الشافعي شعرت السيدة نفيسة بدنو أجلها فحفرت قبرها لتصلي فيه وتختم القرآن مائة وتسعين ختمة، وأرسلت إلى زوجها المؤتمن تطلب منه موافاتها، ولكنه لا يأتي فاشتد بها المرض. وتروي زينب بنت أخيها أنها مرضت في أول جمعة في رمضان، وظلت صائمة حتى حلت العشر الأواسط، فكانت تقرأ سورة الأنعام، وحين وصلت لقوله تعالى: "كتب على نفسه الرحمة" غُشي عليها وفاضت روحها الكريمة، وكانت قد أوصت بدفنها في قبرها الذي حفرته بيديها، وهو مكان مقامها نفسه الآن، فجاء زوجها وأصر على دفنها بالبقيع إلا أن المصريين حالوا بينه وبين ما يريد، وتشفعوا له بالأمير الحاكم، فلم يقبل شفاعته، وبات الناس حول قبرها يدعون الله ألا يريهم ساعة فراقها حتى أشرق نور الصباح ليقبل إسحاق مشرقًا ليقول لجموع الناس الثكلى، والله لقد رأيت رسول الله في منامي قائلًا: "دع نفيسة للمصريين"، وكان يوم دفنها مشهودًا ليظل مقامها ومسجدها على مدى تاريخه يحظى باهتمام العلماء، والأمراء الذين تعاقبوا على مصر، وقد عُرف عن خديو مصر عباس حلمي الثاني أنه كان من مريدي السيدة نفيسة، وهو من قام بتوسعة مسجدها وتجديده ليظل مقامها حتى الآن مقصدًا وملجأً لمريدى نفيسة العلم والمعرفة ومحبيها وكيف لا يعشقها المصريون وهي زهرة آل البيت وحفيدة الحبيب المصطفى؟! صلوا عليه وسلموا تسليمًا.