السباق على ”رفح”
في اللحظة الراهنة من الحرب الجارية بالمنطقة، لا تبدو عملية غزو "رفح" قضية معزولة، ولا محصورة في الضيق الخانق لمساحة "رفح"، التي لا تزيد على ستين كيلومترا مربعا، ولا في الآثار المروعة المتوقعة، مع تكدس نحو المليون ونصف المليون فلسطيني، أغلبهم نازحون من شمال قطاع "غزة" والوسط، يعيشون في العراء بالمعنى الحرفي، وأي عمل عسكري همجي عليهم مما تعوده كيان الاحتلال، سيؤدي غالبا إلى مجزرة غير مسبوقة في تاريخ الحروب، تقفز بعدد شهداء وضحايا ومفقودي حرب الإبادة الجماعية على أهل "غزة"، من نحو مئة ألف اليوم إلى مئات الآلاف، وهذا أول خاطر يرد إلى البال، وتنشغل به الدنيا كلها، وإن كانت هناك أبعاد أخرى أخطر.
فقد تحولت عملية "رفح" المزمعة "إسرائيليا" إلى سباق لاهث بين كافة اللاعبين، فواشنطن تريد تأجيلها، وبدعوى ضرورة تنظيم إخلاء واسع للمدنيين قبل الشروع فيها، وأطراف إقليمية، لعل أهمها مصر، تريد توقي العملية برمتها، ولها مخاوفها المفهومة، فهي تعتبرها تهديدا مباشرا لأمنها القومي، وتخشى من دفع مئات آلاف الفلسطينيين إلى تهجير اضطراري نحو سيناء هربا من القتل، فوق أنها تعتبر التهجير لو حدث تصفية للقضية الفلسطينية، وقد اتخذت "القاهرة" عددا من الإجراءات المعلنة والمخفية، وإن كانت تحرص على تسجيل موقف سياسي متعدد الوجوه، لا تهدد فيه بتعليق أو إلغاء ما تسمى معاهدة السلام، وتستبقى لنفسها دور وساطة لإيقاف الحرب، عبر مفاوضات غير مباشرة بين "حماس" وكيان الاحتلال، انتقلت من "باريس" إلى "القاهرة"، ومن دون أمارات أكيدة على نجاح نهائي قاطع حتى تاريخه، فقد أعلنت "حماس" قرارها بنسف أي مفاوضات، إذا جرى غزو "رفح" بريا، فيما تواصل حكومة "بنيامين نتنياهو" مراوغاتها، ولا تبدي تجاوبا مع مساعي واشنطن والقاهرة والدوحة، وأقصى ما قد تقبله حكومة "نتنياهو"، أنها قد ترتضى بهدنة موقوتة لأسابيع، يجرى فيها تبادل أسرى فلسطينيين و"إسرائيليين"، وبأعداد ونوعيات مختلف على تحديدها، وعلى أن تعود للحرب بعدها، وإعطاء الأولوية لعملية غزو "رفح" بريا، وبدعوى وجود كتائب عسكرية فلسطينية في أقصى الجنوب، لا تكتمل حرب العدو من دون القضاء عليها، وكأن حكومة "إسرائيل" صدقت مزاعمها وأكاذيبها، بأنها قضت على أغلب كتائب "القسام" والمقاومة من شمال "غزة" إلى "خان يونس"، بينما لم تخرج كتائب المقاومة من أي مكان في "غزة" ، ولا تزال تواصل معاركها وكمائنها وقتالها الإبداعي في كل مكان، ولا تمكن العدو من استقرار وثبات في أي منطقة دخلتها أو خرجت منها صوريا، وقبل أيام، بدت صورة الصدامات القتالية ظاهرة، فقد تفاخرت "إسرائيل" بعملية تحرير أسيرين لها في "رفح"، وصورت القصة على أنها عملية بطولية خارقة، بينما توحى الدلائل، أن الأسيرين المقصودين لم يكونا أصلا فى حوزة "حماس" ، بل لدى عائلة فلسطينية، وهو ما نبهت له "حماس" فى أكثر من بيان مع بداية القصف والغزو البرى الوحشى ، الذى يقتل المدنيين الأبرياء في "غزة"، ويقتل حتى كثير من الأسرى "الإسرائيليين"، وفى إطلالات "أبو عبيدة" المبكرة، قال بوضوح، أنه ليس كل الأسرى "الإسرائيليين" لدى "حماس" وحدها، وأن الانهيار السريع للسياج والتحصينات العسكرية والاستخباراتية "الإسرائيلية" صباح 7 أكتوبر المزلزل، صحبه اندفاع عفوى واسع لمنظمات ولأفراد عاديين إلى قلاع "إسرائيل" المنهارة، وأن بعض الأسرى اقتيدوا إلى منازل عائلات لا أنفاق منظمات، ولا شك أن عملية "إسرائيل" المتفاخر بها عندهم، وإلى حد اعتبارها نقطة تحول في الحرب، انطوت على خرق ما ، امتنعت "حماس" و"كتائب القسام" عن الخوض رسميا فى تفاصيله إلى اليوم، ربما اتقاء لشرور دسائس وفتن أهلية، لكن ما جرى فى نفس يوم العملية المذكورة ومن بعده، وفي كمين "خان يونس"، الذى قتل فيه عدد من قادة الكتائب "الإسرائيليين" بتفجير واحد، نسف مزاعم "نتنياهو" وعصابته، وداس ادعاء "يوآف جالانت" وزير الحرب بتحقيق نصر ما مع استرجاع الأسيرين بعملية عسكرية خاصة ، وهو زعم تنفيه حتى تقارير المخابرات الأمريكية ، التى تؤكد أن أغلب قوة "حماس" العسكرية لا تزال على جاهزيتها الأولى، وأن ثمانين بالمئة من أنفاق المقاومة لا تزال بعيدة عن يد جيش الاحتلال، وأن قوات المقاومة وكتائبها المعاد تنظيمها، لا تزال تعمل فى كل قطاع "غزة"، وليس فقط فى "رفح" ، التى يصر "نتنياهو" على أن غزوها هو مفتاح النصر لجيشه، بينما الغزو إياه ، لن يقدم كثيرا للعدو فى معارك القتال وجها لوجه مع جيش فلسطينى غير منظور، يتحرك بسلاسة تحت الأرض، ولن يمنح العدو صورة نصر مقنع لجمهوره، إلا إذا كانوا يعتبرون أن أشلاء الأطفال والنساء والمدنيين الأبرياء هى عنوان النصر الوحيد وأكاليل غاره وعاره.
والمعنى ببساطة، أن السباق إلى "رفح"، أو تجنب غزوها بريا بنتائجه الفوق كارثية، يشغل بال الأطراف كلها، ففيما تصر "إسرائيل" على تصويره كطوق نجاة لجيشها المهزوم، وتصر "حماس" على رفضه، وتطالب وتسعى لإجلاء جيش الاحتلال عن كل قطاع "غزة"، وإن كانت مستعدة لإبداء مرونة ما فى التفاصيل ومراحل وقف العدوان، فيما تتلمس "القاهرة" و"الدوحة" مع "واشنطن" سبل البحث عن مخارج، قد يجرى التوصل إليها ، أو تتعطل ، ولكل طرف دوافعه ، فواشنطن تريد فتح الباب لهدوء طويل نسبيا ، ربما لإنقاذ الرئيس "جو بايدن" من مصائر تراجع شعبيته ، وتقدم منافسه المحتمل "دونالد ترامب" عليه فى استطلاعات الرأى العام ، بينما الأيام تتدافع إلى انتخابات الرئاسة الأمريكية فى نوفمبر المقبل ، ويبدو "بايدن" تائها ضائعا فى التفاصيل، لا يضمن نجاحا فى ضغط ما على "نتنياهو" ، والأخير يدرك بحسب مصالحه الشخصية والسياسية ، أن وقف الحرب ـ حتى لو كان موقوتا ـ يعنى نهايته وذهابه إلى مزابل التاريخ ، ويعتبر غزو "رفح" كخشبة إنقاذ قد تغطى عورات فشله ، بينما حلفاء "إسرائيل" الأوربيون يعربون عن فزعهم من غزو "رفح" ، وإلى حد توجيه "جوزيب بوريل" منسق الشئون الخارجية بالاتحاد الأوروبي لانتقادات عالية الصوت، سخر فيها من ما يقال عنه خططا لإخلاء المدنيين فى "رفح" ، وقال أنه لم يتبق من بدائل للإخلاء ، سوى أن يرسلوا الفلسطينيين "إلى القمر" ! ، فليس من مكان آمن فى قطاع "غزة" كله ، واستنكر "بوريل" ادعاءات واشنطن عن رغبتها فى حماية المدنيين ، وقال ما معناه ، أن "واشنطن" لو كانت صادقة ، فإنها كان يجب أن تقلل من دعمها العسكرى والمالى الغزير للكيان "الإسرائيلى" ، وهى ـ أى واشنطن ـ تفعل العكس بالضبط ، بينما يبدو مشهد قيادة كيان الاحتلال عظيم الفوضى والاضطراب، وإلى حد زعم وزير المالية "بتسلئيل سموتيرتش" أن القاهرة هى السبب فى هجوم 7 أكتوبر ، وأنها تدعم "حماس" بالسلاح عبر الأنفاق ، وهو ما أثار المزيد من حفيظة الحكومة المصرية ، ودفعها لوصف حديثه بالتحريضى والتخريبى، فيما تتابع "القاهرة" أولوياتها من وجهة نظرها ، وتأمل فى دفع التفاوض الجارى إلى نتيجة ما، قد تعطل أو تلغى عملية غزو "رفح"، بينما تلعب أطراف أخرى أدوارا فى تعطيل عملية "رفح"، رغم أن هذه الأطراف لا تشارك فى أى تفاوض ، فعمليات "الحوثيين" فى البحر الأحمر مثلا، لا تتراجع رغم حملات القصف الأمريكى والبريطانى ، وردود واشنطن العسكرية على قتل جنودها فى عملية "البرج 22" ، تبدو بلا أثر رادع لجماعات الولاء الإيرانى فى العراق وسوريا ، وكل هذه الأطراف تشترط لإيقاف عملياتها وقف حرب "غزة" ، وبالتالى تعطيل عملية غزو "رفح" ، وحتى "حزب الله" فى لبنان ، يصعد عملياته شمال فلسطين المحتلة على نحو محسوب ومؤثر ، لا يدخل فى حرب شاملة مع "إسرائيل" ، التى تبحث عن حل سياسى ما ، يبعد قوات الرضوان ـ التابعة لحزب الله ـ عن خط الحدود ، ويتيح فرصة ما لإعادة سكان مستوطنات الشمال ، وهو ما لا يتجاوب معه "حزب الله" ، الذى رفض مبادرة فرنسية لإبعاد "قوات الرضوان" إلى مسافة أقل من 10 كيلومترات عن الحدود ، ولا يخفى أنه يشترط وقف حرب الإبادة على "غزة" قبل أى تفاهم سياسى لبنانى ـ "إسرائيلى" ، وهو ما يعنى ضمنا ـ ربما صراحة ـ تعطيل أو إلغاء عملية غزو "رفح"، وهو ما يعنى أن موارد عديدة ومتفرقة اليوم، تجتمع من دون سابق اتفاق على قلب "رفح"، وقد يؤدى ذلك كله إلى تأجيل عملية غزو "رفح" حتى إشعار آخر.