عبدالحليم قنديل يكتب: ”إسرائيل” المارقة و”أمريكا” المنبوذة
ليست القصة فى عدم تنفيذ قرار مجلس الأمن الأخير بوقف إطلاق نار "رمضانى" موقوت فى "غزة"، فقد صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة مئات القرارات الداعمة للحقوق الفلسطينية، وصدرت عن مجلس الأمن عشرات القرارات المتصلة بالمعنى نفسه، ولم ينفذ كيان الاحتلال "الإسرائيلى" شيئا منها أبدا.
ومن اللحظة الأولى لصدور قرار مجلس الأمن الأخير، لم تترك "إسرائيل" فرصة لأحد فى التخمين، وأعلنت فورا ورسميا أنها لن توقف القتال، وأعاد "بنيامين نتنياهو" ـ رئيس وزراء العدو ـ عزف أسطوانته المشروخة عن السعى إلى "النصر المطلق"، وعزمه اجتياح "رفح"، والقضاء على ما تبقى ـ بحد زعمه ـ من كتائب "حماس" فى لواء "رفح"، ورمى ومعاونوه هيئة الأمم المتحدة بوابل لا ينقطع من السخائم والشتائم، واعتبار الأمين العام للأمم المتحدة نفسه شخصا معاديا للسامية ومواليا لحركة "حماس".
وقد لا يكون من جديد جوهرى فى القصة كلها، وعبر ستة شهور إلى الآن من حرب الإبادة الجماعية للفلسطينيين، سوى أن واشنطن تفضلت على الضمير الجامع للمجتمع الدولى بأكمله، وامتنعت عن استخدام حق النقض "الفيتو"، ووقفت عند حد الامتناع عن التصويت، وبما سمح بتمرير القرار، الذى سارعت واشنطن بوصفه بأنه "غير ملزم" فى التنفيذ فور صدوره، ربما لتلافي المزيد من غضب "إسرائيل"، التى قررت حكومتها عدم إرسال وفد كان مقررا ذهابه إلى واشنطن، بناء على رغبة معلنة من الرئيس الأمريكى "جو بايدن"، وبهدف بحث بدائل أمريكية لعملية اجتياح "رفح"، واقتراح تنفيذ غارات "جراحية" واغتيالات لقادة "حماس"، عوضا عن اجتياح شامل لمنطقة "رفح"، التى تضم اليوم نحو المليون ونصف المليون فلسطينى، أغلبهم من النازحين، يتوقع قتل وجرح مئات الآلاف منهم، لو أقدمت "إسرائيل" على اجتياح همجى، يشبه ما جرى فى شمال وفى مدينة "غزة" ووسط القطاع وفى "خان يونس" جنوبا، وكانت نتائجه تدميرا شاملا لكل شئ، وارتقاء نحو 40 ألف شهيد بمن فيهم المفقودين تحت الأنقاض، وجرح عشرات الآلاف الآخرين، وبما قفز بمجموع الضحايا حتى اليوم إلى ما قد يصل إلى مئة وعشرين ألفا، قد يزيدون أضعافا مضاعفة مع غزو "رفح" بريا.
ومع كل هذا السيل من الدم الفلسطينى، بدا أن واشنطن قد تكون ظاهريا على شفا استفاقة ضمير، وقدمت مشروع قرار إلى مجلس الأمن، يتحدث عن "حاجة ملحة" لبحث التوصل لوقف إطلاق نار فورى، ويشترط بالمقابل إفراجا كاملا عن المحتجزين "الإسرائيليين" لدى "حماس" وأخواتها، ويدين ما أسماه أعمال "حماس الإرهابية"، ومن دون التطرق بكلمة أو إشارة لإرهاب كيان الاحتلال ووحشيته وهمجيته، وكان طبيعيا مع غلبة التعاطف العالمى مع الفلسطينيين، أن يسقط مشروع القرار الأمريكى بالفيتو المزدوج من روسيا والصين، ربما حرمانا لواشنطن من فرصة التظاهر بالعدالة الدولية.
ورغم أنها ـ أى واشنطن ـ سبق لها استخدام "الفيتو" لإسقاط ثلاثة مشروعات قرارات من قبل، كانت تطالب بوقف نار فورى ودائم.
وعقب سقوط مشروع القرار الأمريكى المريب، تقدمت عشر دول من غير الأعضاء الدائمين الخمسة بمجلس الأمن، وطرحت مشروع قرار بديلا، سعت واشنطن لإفراغه من مضامينه، التى كانت تدعو لوقف نار دائم، وهددت فى الكواليس باستخدام "الفيتو" الرابع ضد مشروع القرار الأمريكى المريب، وبما دفع مقدمي المشروع لإجراء تعديلات، جعلت حدود وقف إطلاق النار فيه منصرفة إلى نحو أسبوعين كانا تبقيا وقتها من شهر رمضان، وبعد اطمئنان واشنطن لهزال مشروع القرار، اكتفت بالامتناع عن التصويت، غير أن الأمر بدا أبعد من إعاقات واشنطن المزاجية لقرارات الأمم المتحدة، وأقرب إلى مناورة عابرة ضاغطة فى علاقتها بكيان الاحتلال، فمن بين أكثر من ثمانين مرة، استخدمت فيها واشنطن حق "الفيتو" فى تاريخ مجلس الأمن الدولى، كان أكثر من نصفها لمنع صدور قرارات بإدانة "إسرائيل" أو مساندة حقوق الشعب الفلسطينى، وإذا أضفنا قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة عن القضية الفلسطينية، نجد أن واشنطن اعترضت عليها 114 مرة، بينها 80 مرة لمنع إدانة إسرائيل، و34 مرة ضد قرارات دعم حقوق الشعب الفلسطينى، ولم تمتنع واشنطن عن استخدام "الفيتو" سوى مرة وحيدة بصدد قرار لمجلس الأمن يدين الإستيطان "اليهودى" فى القدس والضفة الغربية عام 2016، وكانت مغامرة من الرئيس الأمريكى الأسبق "باراك أوباما" فى نهاية أيام رئاسته الثانية، وقتها امتنعت واشنطن عن التصويت فصدر القرار، ومن دون أن يكون له أثر فوق رمزى، ولم ينس "أوباما" أن يكفر عن سيئته الوحيدة بحق "نتنياهو" الذى كان وقتها أيضا رئيسا لوزراء العدو، ووقع قبل أن يغادر البيت الأبيض على قرارات بتسليح "إسرائيل" مجانا بما قيمته 38 مليار دولار لمدة عشر سنوات، ظلت تنفذ إلى اليوم، وتزاد وتنقح من قبل الرئيس الحالى "بايدن" ظل أوباما ونائبه السابق، وشريكه فى نقص الارتياح النفسى وغياب الكيمياء الشخصية فى التعامل مع "نتنياهو" بالذات، كان "نتنياهو" متعجرفا مع "أوباما" أول رئيس ملون فى تاريخ أمريكا، وهو يواصل العجرفة والتحدى مع "بايدن"، ربما مع فارق صورى، أن "أوباما" أقدم على إجراء غير مريح لكيان الاحتلال، وهو يمضى إلى بيته بعد استنفاد فترتى رئاسته، بينما "بايدن" لا يزال محشورا فى عنق زجاجة، ولا يزال يأمل فى فترة رئاسة ثانية أواخر العام الجارى، ويخشى من أثر معاندة "نتنياهو" على فرصه، خصوصا مع تزايد احتمالات فوز منافسه "دونالد ترامب" فى استطلاعات الرأى.
و"ترامب" كما هو معروف، أكثر اندفاعا فى دعم كيان الاحتلال من "أوباما" و"بايدن"، وفى النظام الأمريكى عموما، قد تكون للرئيس لمساته الشخصية المؤثرة فى صنع السياسات الخارجية، اللهم باستثناء العلاقة مع "إسرائيل"، التى هى فى حكم "البقرة المقدسة" عند صناع القرار الأمريكى من الجمهوريين أو الديمقراطيين سواء بسواء، فما بين أمريكا و"إسرائيل" حالة "اندماج استراتيجى"، وليس لدى "بايدن" من شبهة نزوع للتملص من "الالتزام المقدس" تجاه "إسرائيل"، وهو يفخر بصهيونيته الخالصة برغم عدم كونه "يهوديا" كما قال، ويؤمن بأن "إسرائيل" غاية ومصلحة أمريكية ، و"لو لم تكن إسرائيل موجودة لاخترعناها" على حد قوله المتكرر، وقد أبدى استعدادا للذهاب إلى آخر مدى فى الحرب بجوار "إسرائيل" على "غزة"، وبهدف القضاء على حركة "حماس"، وتصفية الحساب مع هجوم "حماس" وأخواتها فى 7 أكتوبر المزلزل، وشارك كما شارك معاونوه فى اجتماعات مجلس الحرب "الإسرائيلى"، وفتح خزائن السلاح الأمريكى بأوسع أبوابها، وقدم لكيان لاحتلال أكثر من مئة صفقة سلاح فائق التطور حتى اليوم، وحرك أكبر حاملات طائراته وغواصاته النووية دعما لكيان الاحتلال، بل وحارب نيابة عن "إسرائيل"، على نحو ما جرى ويجرى مع "الحوثيين" فى اليمن مثلا، لكن الصدمة الكبرى لواشنطن جاءت من "غزة" بالذات، فرغم كل زلازل الدمار وشلالات الدماء التى سالت وتسيل من الفلسطينيين فى "غزة"، ورغم استخدام جيش الاحتلال لأغلب مخزونات أمريكا من الصواريخ والذخائر والقنابل الأمريكية، ورغم امتداد حرب الإبادة لنحو ستة شهور إلى الآن، فلم يتحقق لحكومة الاحتلال الأم فى واشنطن، ولا لرفاقها الأصغر شأنا فى "تل أبيب"، شئ مما تمنوه، فقد كانوا يتصورون أنها قصة أسابيع قليلة وينقضى كل شئ، لكن هدفا واحدا مما خططوا له لم يتحقق إلى اليوم، فلا حركة "حماس" وأخواتها هزمت، حتى لو استشهد عدد من كبار قادتها العسكريين، ولا هم استعادوا أسراهم بالقوة المسلحة، وما من أمل لأمريكا ولا لإسرائيل يلوح فى الأفق المرئى، فهم لم يحسبوا حساب الإبداع القتالى المذهل لحركات المقاومة فى "غزة"، ولا حسبوا حساب الصمود الأسطورى للشعب الفلسطينى، الذى تحول إلى "الضحية المختارة" و"شعب الله المختار " فى عيون الرأى العام العالمى، ولم يجن الأمريكيون و"الإسرائيليون" غير "سواد الوش"، وصارت "إسرائيل" كيانا إجراميا مارقا عند الغالب الساحق من شعوب العالم، وصارت أمريكا المحاربة معها فى وضع "الدولة المنبوذة"، والوصف ليس من عندنا، بل قاله "تشاك شومر" زعيم الأغلبية الديمقراطية فى مجلس الشيوخ الأمريكى، وهو "يهودى" من غلاة المؤيدين النافذين لكيان الاحتلال، وقد طالب باستبدال "نتنياهو" الذى يفشل "إسرائيل"، ويجر أمريكا معه إلى وضع "الدولة المنبوذة" عالميا، وهو ما يؤيده "بايدن"، الذى يسعى لإنقاذ "إسرائيل" من حربها المجنونة الفاشلة، ويريد كسب أصوات يهود أمريكا مع أصوات العرب والفلسطينيين، ويريد إنهاء حرب همجية، فقدت كل فرصها فى كسب أى نصر محتمل .
بقلم عبدالحليم قنديل