الانتخابات التشريعية الفرنسية.. البحث عن استقرار سياسي وسط ضبابية المشهد
تتجه الأنظار إلى فرنسا غدا الأحد حيث ستجري الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية الحاسمة التي ستحدد مصير الحياة السياسية خلال المرحلة القادمة، وسط ترقب أوروبي، لمعرفة التشكيلة المقبلة للسلطة في بلد يملك سلاحا نوويا ويعتبر من دعائم الاتحاد الأوروبي وثاني أكبر اقتصاد فيه.
ومن الوارد أن يصبح البرلمان الفرنسي المقبل بلا أغلبية واضحة، ما سينعكس بالجمود على عملية اتخاذ القرارات خلال الفترة المتبقية من رئاسة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، المقرر استمرارها حتى 2027.
وعشية الانتخابات، خيمت الضبابية والغموض على المشهد السياسي، وذلك بعد أن دفع الناخبون الفرنسيون، التجمع الوطني اليميني إلى تحقيق تقدم قوي في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية يوم الأحد الماضي، ووضعوا فرنسا في حالة من عدم اليقين.
وكان الرئيس ماكرون قد حل الجمعية الوطنية في التاسع من يونيو الماضي ودعا لانتخابات تشريعية مبكرة، بعد هزيمة تكبدها تحالفه على يد التجمع الوطني في التصويت الفرنسي لاختيار البرلمان الأوروبي.
وقد راهن في حينه على أن الحزب المناهض للهجرة، لن يكرر هذا النجاح عندما يكون مصير فرنسا نفسه في الميزان، لكن الأمور سارت في اتجاه آخر، قد تخرج فرنسا منه إما تحت سيطرة اليمين وإما في حالة من البلبلة السياسية غير المسبوقة.
وتصدر حزب التجمع الوطني اليميني وحلفاؤه نتائج الجولة الأولى للانتخابات بثلاثة وثلاثين بالمائة من الأصوات تقريبا فيما حلت "الجبهة الشعبية الجديدة" (وهو تحالف لقوى اليسار يضم الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي والخضر وفرنسا الأبية) في المركز الثاني بثمانية وعشرين بالمائة من الأصوات، بينما جاء التحالف الرئاسي الذي يضم حزب النهضة وآفاق وحزب الحركة الديمقراطية ثالثا ب 20 بالمائة من الأصوات.
ويعتبر محللون أن هذه النتائج، بمثابة رد جزئي على الأقل على إصلاحات ماكرون غير الشعبية في مجال المعاشات التقاعدية وسوق العمل والتي رفعت سن التقاعد وقلصت مدة إعانات البطالة، ما أدى إلى اندلاع احتجاجات حاشدة.
ومنذ قرار الرئيس ماكرون المفاجئ حل الجمعية الوطنية، أكدت التطورات التي تعيد تشكيل المشهد السياسي الفرنسي صعود حزب التجمع الوطني اليميني الذي يأمل في الوصول إلى السلطة هذا الأسبوع، غير أن القلق من قيام حكومة برئاسة اليمين المتطرف، دفع بعض القوى والأحزاب الفرنسية، بعد مفاوضات شاقة، إلى رص الصفوف وتجاوز التناقضات والخلافات، وتشكيل "جبهة جمهورية" جديدة، مع انسحاب حوالى 200 مرشح من اليمين ويمين الوسط واليسار لقطع الطريق أمام مرشحي التجمع الوطني في الدورة الانتخابية الثانية.
وتوقع استطلاع للرأي نشرت نتائجه الخميس الماضي أن يحصل التجمع الوطني وحلفاءه غدا الأحد، على 210 إلى 240 مقعدا، بفارق كبير عن الغالبية المطلقة البالغة 289 مقعدا، وسيحل تحالف "الجبهة الشعبية الجديدة" في المرتبة الثانية، يليه معسكر الرئيس ماكرون ثم اليمين الجمهوري، إنما دون غالبية واضحة.
وأعلن جوردان بارديلا رئيس التجمع الوطني البالغ من العمر تسعة وعشرين عاما والطامح لتولي رئاسة الحكومة، أنه لن يقبل تشكيل الحكومة مالم يحصل التجمع الوطني على غالبية مطلقة، وربما يكون هذا الموقف مجرد تكتيك انتخابي لتحفيز الناخبين، وربما يحاول تشكيل ائتلاف غير رسمي مع مجموعة من النواب المستقلين.
وخلال الأسبوع الماضي كثفت الأحزاب والقوى السياسية الفرنسية المناهضة لليمين المتطرف تحركاتها وأنشطتها للاتفاق على خطة واضحة تمنع حزب "التجمع الوطني" من تحقيق غالبية تخوله تشكيل الحكومة القادمة.
ويعتقد المراقبون أنه إذا تمكنت القوى المعارضة لليمين المتطرف من التقارب والاتفاق، فسيقوم تيار الرئيس ماكرون بتشكيل حكومة ائتلافية تضم أعضاء من "اليسار" و"الجمهوريين"، وفق ممارسة سارية في بلدان أوروبية أخرى، رغم أنها غريبة عن التقاليد السياسية الفرنسية، وهذا ما استشفه المراقبون من خطاب أدلى به غابرييل أتال رئيس الوزراء الفرنسي الذي تحدث عن "جمعية وطنية متعددة"، ورئيس حزب الجمهوريين كزافييه برتران الذي دعا إلى ما سماها "حكومة انتفاضة وطنية".
ووفق تقارير صحفية وإعلامية، فأيا كانت نتيجة الجولة الثانية غدا الأحد، فإنها ستترك أثرا واضحا على سياسات الرئيس الفرنسي من ناحية سيطرته على السياسة الداخلية والأوروبية.
ومن المتوقع أن تصبح فرنسا، العضو المؤسس والقوة الدافعة في الاتحاد الأوروبي، واقتصاد مجموعة الدول السبع، والقوة النووية، والعضو الدائم في مجلس الأمن، شريكا أكثر تركيزا على الداخل في مفاوضات الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وربما داعما أقل حماسا لأوكرانيا، وكابحا أمام المزيد من التكامل الأوروبي.
وتنص المادة الثامنة من الدستور الفرنسي على أن الرئيس يعين رئيس الوزراء، لكنها لا تحدد المعايير التي يجب أن يستند إليها، ومن المفترض أن يعرض الرئيس ماكرون المنصب على الكتلة البرلمانية الفائزة، لكن قد يحاول، من الناحية النظرية، جمع تحالف مناهض للتجمع الوطني وعرض المنصب على حزب آخر، أو شخص ليست له انتماءات سياسية.
وفي حال فاز حزب التجمع الوطني بأعلى نسبة من الأصوات وقبل منصب رئيس الوزراء، فستبدأ فترة "تعايش" مع الرئيس ماكرون، وقد حدث هذا ثلاث مرات في التاريخ السياسي الحديث لفرنسا، ولكن مع الأحزاب الرئيسية، وقد يكافح حزب التجمع الوطني من أجل تبني أفكار التغيير، أما إذا أصبح هذا الحزب هو الحزب الأكبر في البرلمان دون أن يكون له السلطة، فيمكنه منع أو تعديل مقترحات الحكومة، وإذا حصل حزب التجمع الوطني على الأغلبية المطلقة، فسيكون حصوله على منصب رئيس الوزراء مضمونا إلى حد كبير لأنه قد يجبر أي حكومة لا يتفق معها على الاستقالة.
وفي محاولة للتقرب من الناخبين تخلى حزب التجمع الوطني اليميني عن العديد من وعوده الاقتصادية الأكثر تكلفة أو أرجأها، وربما يتعامل بحذر مع السياسة المالية لتجنب إثارة الذعر في الأسواق المالية التي رفعت بالفعل علاوة المخاطر السياسية على الاحتفاظ بالأسهم والسندات الفرنسية.
في المقابل يريد جوردان بارديلا رئيس التجمع الوطني أن يلقى بثقله في قضايا أساسية مثل الهجرة والأمن ولا يزال حزبه مصمما على إلغاء حق المواطنة للأطفال المولودين لأجانب على الأراضي الفرنسية، وإدخال التمييز لصالح المواطنين الفرنسيين في الرعاية الاجتماعية والإسكان والتوظيف العام، ويبدو أن هذا "التفضيل الوطني" من شأنه أن يفرض عليه صراعا مع المجلس الدستوري ومجلس الدولة، وهما أعلى سلطة قضائية في فرنسا.
وعلى نحو مماثل في أوروبا، فقد تؤدي خطط حزب التجمع الوطني المعلنة للانسحاب من سوق الكهرباء في الاتحاد الأوروبي والمطالبة بخصم على مساهمة فرنسا في ميزانية الاتحاد الأوروبي إلى صدامات مع بروكسل، ومن المرجح أن تقاوم أي حكومة يقودها الحزب تنفيذ تشريعات المناخ في الاتحاد الأوروبي وتسعى إلى إلغاء الحظر على المبيدات الحشرية الكيميائية ومكافحة اللوائح البيئية التي أشعلت الاحتجاجات من جانب المزارعين الفرنسيين في وقت سابق من هذا العام.