اللغة المشفرة.. أداة السوريين للتعبير تحت وطأة القمع
على مدى عقود من حكم عائلة الأسد، عاش السوريون في ظل نظام مشبع بالخوف والمراقبة المكثفة، وهو ما دفعهم إلى تطوير وسائل تواصل مشفرة للتعبير عن آرائهم بعيدا عن أعين أجهزة المخابرات. وفقًا لتقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست، كانت عبارة "الجدران لها آذان" هي التحذير الأكثر شيوعًا، يعكس مدى مراقبة النظام الذي طال حتى تفاصيل الحياة اليومية.
في المقاهي، سيارات الأجرة، والأسواق، وحتى داخل المنازل، كان السوريون يواجهون قيدًا صارمًا على حرية التعبير. وأصبح الشك في أي شخص، سواء كان من العاملين البسطاء أو زملاء العمل، أمرًا شائعًا، إذ كان من المحتمل أن يكون أحدهم مخبرًا. ويقول أيمن رفاعي، شاب في السادسة والعشرين من عمره، إنه عاش في بيئة من القلق والخوف لدرجة أنه لم يكن يثق حتى بأفراد عائلته.
إزاء هذه الأجواء القمعية، لجأ السوريون إلى لغة مشفرة لحماية أنفسهم. لم تكن هذه اللغة مجرد كلمات سرية، بل رموزًا تُستخدم للإشارة إلى أفكارهم وآرائهم بطريقة غير مباشرة. علياء مالك، مؤلفة كتاب "الوطن الذي كان بلدنا: مذكرات سوريا"، توضح أن هذه اللغة أصبحت ضرورية وسط غياب حرية التعبير، حيث لم يكن أحد يعرف من قد يكون مستمعًا لما يُقال.
وكانت الإشارات إلى الحكومة تتم بطرق رمزية. ميسون، سيدة في التاسعة والأربعين من عمرها، تقول إنها وزملاءها كانوا يستخدمون رفع أصابعهم نحو السقف للإشارة إلى الحكومة. وإذا كان هناك اشتباه في أن شخصًا ما يعمل مخبرًا، كان يُقال عنه إن "خط يده جميل". حتى الأطفال لم يكونوا في مأمن من القمع، حيث استغل النظام براءتهم لاستجوابهم حول ميول آبائهم السياسية.
حتى خارج سوريا، استمر تأثير النظام على السوريين. ميسون، التي عاشت في لبنان وفرنسا، تقول إنها لم تشعر بالأمان حتى في تلك البلدان، وكانت تتساءل عما إذا كان أحد من السوريين في التجمعات قد يكون "ذو خط يد جميل". وفي عام 2012، هربت ميسون مع عائلتها إلى بيروت، لكنها اضطرت لتلقين ابنتها الصغيرة أكاذيب عن الأسد لتجنب كشف آرائهم الحقيقية.
رمزية اللغة لم تقتصر على السياسة فقط، بل امتدت أيضًا إلى الاقتصاد. ثابت بيرو، عالم كمبيوتر من دمشق، يروي كيف كان السوريون يستخدمون كلمات مشفرة مثل "الأخضر" أو "البقدونس" للإشارة إلى الدولار، في ظل قوانين صارمة كانت تعاقب على تداول العملات الأجنبية بالسجن.
الاعتقالات كانت جزءًا من الحياة اليومية للسوريين. عبد الوارث لحام، الذي تعرض للاحتجاز في 2012 بسبب مشاركته في احتجاج، يصف تجربته بأنها كانت مليئة بالرعب والتعذيب، حيث كان الحراس يطلقون على التعذيب "حفل استقبال" ويقومون بعدها بإلقاء محاضرات حول "المعنى الحقيقي للحرية". وحتى في أقبية المخابرات، كانت هناك لغة مشفرة خاصة بالنظام، حيث كان يُطلق على جلسات الاستجواب اسم "شرب كوب من الشاي".
اليوم، مع تغير الأوضاع السياسية في سوريا، بدأ السوريون يشعرون بنوع من الحرية. أيمن رفاعي يقول إنه لأول مرة يمكنه استخدام اسمه الحقيقي عند الحديث مع الصحفيين. بينما يخطط ثابت بيرو للعودة إلى سوريا، يعترف أن سنوات القمع ما زالت تؤثر عليه، قائلاً: "لا أزال أعاني من كوابيس أن هذا كله مجرد حلم، وأنهم سيأتون ليأخذوني في النهاية".
رغم التغيرات التي شهدتها سوريا، فإن إرث القمع والخوف ما زال حاضرًا في نفوس العديد من السوريين، الذين يحتاجون إلى وقت طويل للتعافي من عقود من الصمت والرقابة.