اتحاد العالم الإسلامي
اتحاد العالم الإسلامي
رئيس مجلس الإدارة د. محمد أسامة هارونرئيس التحرير أحمد نصار

تطهير الخرطوم وانتكاسة المالحة وترسيم حدود التقسيم بالدم.. قراءة تحليلية للصراع السوداني

السودان
السودان

بعد غياب طويل أثار التساؤلات، عاد محمد حمدان دقلو (حميدتي) للظهور في 16 مارس 2025، معلنًا تصعيد المعارك ومتوعدًا الجيش السوداني بأن يوم 17 مارس، ذكرى تأسيس قوات الدعم السريع، سيكون "حسرة وندامة" على الجيش وحلفائه. بدا حميدتي واثقًا من إدخال أسلحة متطورة ومسيرات لحماية القصر الرئاسي والمواقع الحيوية في الخرطوم، في محاولة لرفع معنويات قواته التي تعرضت لسلسلة من الهزائم منذ سبتمبر 2024.
معركة القصر الرئاسي: الحسم في قلب الخرطوم
على مدى شهور، واصلت قوات سلاح المدرعات التقدم شمالًا حتى وصلت إلى جسر الحرية، وسط معارك ضارية ضد قوات الدعم السريع، التي انكفأت نحو القصر الرئاسي والمقرات الحكومية وجزيرة توتي. كان الجيش يدرك أن السيطرة على القصر ستؤدي إلى انهيار واسع في صفوف الميليشيات، ما دفعه لاعتماد استراتيجية دقيقة لاستعادة أهداف استراتيجية داخل الخرطوم، مع الحرص على تقليل الخسائر المدنية.
الهجوم العسكري المكثف:
في 17 مارس، نفذ الجيش عملية موسعة، مكنته من السيطرة على مناطق رئيسية مثل أحياء الخرطوم 2 و3، وجسر المسلمية، وأبراج النيلين، وهي مواقع كانت تستخدمها الميليشيات للقنص والسيطرة على الممرات الاستراتيجية. تزامنًا مع ذلك، أدى التحام قوات المدرعات مع القيادة العامة إلى إحكام الحصار على القصر، ما مهد للتقدم جنوبًا نحو مجمع اليرموك ومعسكر الاحتياطي المركزي.
في 19 مارس، بدأ الهجوم الحاسم على القصر الرئاسي، بتغطية جوية مكثفة من الطائرات المسيّرة والمدفعية. رغم المقاومة الشرسة لقوات الدعم السريع، تمكن الجيش من التقدم على محورين رئيسيين:
المحور الشرقي: انطلق من القيادة العامة، وسيطر على أبراج العمارة الكويتية، ما وضعه على بعد أقل من نصف كيلومتر من البوابة الشرقية للقصر.


المحور الجنوبي: شمل اختراقًا مباشرًا لقوات سلاح المدرعات باتجاه القصر.


استراتيجية الحصار وقطع الإمدادات:
تمت العملية بالتوازي مع تحركات استراتيجية في ثلاثة اتجاهات:
إغلاق مداخل الخرطوم الغربية بتعزيزات عسكرية في أم درمان.


نشر وحدات استطلاع جنوب الخرطوم، رغم مواجهتها مقاومة شرسة.


تنفيذ عمليات تمشيط واسعة في المناطق المتاخمة للعاصمة.


الهجوم المضاد للميليشيات.. محاولة يائسة لكسر الحصار
حاولت قوات الدعم السريع تنفيذ هجوم مضاد في 20 مارس، مستخدمة 700 مركبة قتالية في منطقة المالحة بشمال دارفور، في محاولة لخلق توازن استراتيجي بعد الهزيمة في الخرطوم. لكن الكمائن المحكمة للجيش، إضافة إلى الضربات الجوية، أدت إلى تدمير عشرات العربات والمعدات القتالية، ما أسفر عن خسائر فادحة في صفوف الميليشيات.
إحباط محاولات الفرار
في الساعات الأولى من 20 مارس، بدأت قوات الدعم السريع الانسحاب من القصر ومحيطه، مستغلة شارع القصر وجسر الحرية كممرات للهروب. لكن الضربات الجوية منعتهم من الفرار، وأدت إلى تدمير أكثر من 30 مركبة و10 دراجات نارية، ما عزز إحكام الجيش سيطرته على الخرطوم.
سقوط المالحة.. محاولة لإعادة رسم خطوط الصراع
رغم انتكاستها في الخرطوم، تمكنت قوات الدعم السريع من السيطرة على المالحة، مستغلة موقعها الاستراتيجي كعقدة مواصلات تربط الشمال بالغرب، ما منحها قدرة على قطع الإمدادات عن الجيش المحاصر في الفاشر، وإبقاء طرق الإمداد مفتوحة إلى ليبيا. هذا التقدم، وإن كان تكتيكيًا، فإنه يعكس تحولًا في طبيعة الصراع، حيث أصبحت مناطق السيطرة تتخذ شكل حدود سياسية على الأرض.
التهديد الإقليمي .. أزمة تتجاوز السودان
في 23 مارس، اتهم الجيش السوداني كلًا من تشاد وجنوب السودان بدعم قوات الدعم السريع، وهدد باستهداف المطارات التشادية حال استمرار التدخل. ردت تشاد وجنوب السودان بتحذيرات صارمة، فيما حذرت الأمم المتحدة من أن التصعيد يهدد الاستقرار الإقليمي.
قراءة استراتيجية.. ماذا تعني هذه التحولات؟
إحباط مشروع "الحكومة الموازية"
كان الجيش يدرك أن استمرار سيطرة الميليشيات على القصر والمنشآت السيادية قد يمهد لإعلان حكومة موازية، ما يعقد مساعي استعادة الدولة السودانية. لذلك، جاء الحسم العسكري سريعًا لمنع الميليشيات من تحقيق أي انتصار سياسي.


ضربة قاصمة للدعم السريع
هزيمة قوات الدعم السريع في الخرطوم لم تكن مجرد خسارة للأراضي، بل انهيارًا معنويًا لمقاتليها، خصوصًا بعد تعهدات حميدتي السابقة بالاحتفاظ بالسيطرة. هذا الانهيار أدى إلى انشقاقات وفرار واسع، ما زاد من عزلة قواته.


تحولات في خطوط القتال: نحو ترسيم حدود التقسيم؟
بينما استعاد الجيش السيطرة على وسط السودان والعاصمة، حققت الميليشيات تقدمًا في الغرب، ما أدى إلى ما يشبه "إعادة رسم" خطوط المواجهة، حيث بات كل طرف يتمركز في مناطق نفوذه، ما يثير مخاوف من تقسيم السودان فعليًا بين الشرق والغرب.


تحديات ما بعد التحرير
رغم نجاح الجيش في استعادة الخرطوم، إلا أن استئناف عمل الحكومة من العاصمة لا يزال مشروطًا بعدة عوامل، منها:


تطهير المدينة من جيوب المقاومة.


إزالة الأنقاض وإعادة تأهيل البنية التحتية.


إعادة النازحين وتأمين الخدمات الأساسية.


مخاطر التدخلات الخارجية
ما لم يتم تحجيم الدعم الخارجي للميليشيات، فإن سيطرتها على المالحة ستبقى نقطة ارتكاز تعزز قدرتها على مواصلة القتال، مما يستوجب تحركات عسكرية وسياسية عاجلة من الحكومة السودانية.


مستقبل السودان بين الوحدة والتقسيم
ما جرى في الخرطوم والمالحة ليس مجرد معارك عسكرية، بل هو مفترق طرق لمستقبل السودان. إما أن يتمكن الجيش من استعادة السيطرة الكاملة، أو أن يؤدي استمرار الصراع إلى تثبيت واقع التقسيم الفعلي. السودان يواجه اختبارًا وجوديًا: فإما أن يخرج من هذه الأزمة أكثر تماسكًا، أو يصبح ساحة لصراعات إقليمية ودولية تدمر نسيجه الوطني.