غزة بين الموت البطيء والنسيان العالمي.. جغرافيا الألم وصوت لا يحتاج ترجمة

من تحت الركام، ومن بين ألسنة النيران، ما تزال غزة تكتب سردية الجرح المفتوح بلا توقف، جرح لم تعد تحتمله اللغة ولا تكفيه الصور، في زمن أصبحت فيه المآسي أرقاماً عابرة، تُروى بلا وجع. غزة لا تنزف فحسب، بل تعيد تعريف معنى الألم، لتصير أيقونة لعصرٍ قاسٍ فقد بوصلته الإنسانية.
الموت اليومي.. ليس استثناء بل قاعدة
في غزة، لم يعد الموت مفاجئاً، بل صار جزءاً من يوميات الناس، طقوساً يعرفونها جيداً كما يعرفون أسماء أزقتهم. الموت يأتي بصمت أحياناً، بصاروخ في بعض الأحيان، وبالجوع والبرد والانتظار في معظم الأحيان. لا لغة قادرة على احتواء هذا المشهد، ولا استعارة تستطيع تليين حدّته. الجثث تُنقل كأنها رُزم مهملة، والخيام صارت سقفاً للكرامة المهدورة، بينما العالم يراقب دون أن يرمش.
خان يونس.. وجغرافيا المجازر
في مشاهد تكررت حتى فقدت قدرتها على الصدمة، كانت خان يونس على موعد مع مجازر جديدة، إحداها حين سقطت قنبلة قرب مجمع ناصر الطبي، مستهدفة من تبقّى من ثقة في الحماية. أجساد متفحمة، دفاتر تحترق، وعيون الأطفال تُطفأ إلى الأبد. في مكانٍ آخر، في شارع رقم 5، قُصفت "تكية" للطعام، كان الناس يصطفون أمامها بدافع الجوع، فماتوا واقفين، مذلولين، بلا صوت ولا عدالة.
الشهيد محمود الكريمي، الذي كتب قبل مقتله بيوم واحد فقط:
"عاجبك منظري وأنا واقف ع طابور تكية وراسي بالأرض خجلان ومذلول مشان أكل ما يقبل الحيوانات فيه حتى؟"
هي كلمات ليست فقط وجعاً شخصياً، بل تلخيصاً لأزمة جماعية في ظل تخلي الإنسانية.
الأرقام التي لا تروي كل شيء... لكنها تُدمي القلوب
876 طفلاً استُشهدوا قبل أن يحتفلوا بعيد ميلادهم الأول.
274 طفلاً وُلدوا في لحظات القصف وتحت النيران.
17 طفلاً ماتوا برداً، و52 شخصاً جوعاً.
39,000 طفل باتوا أيتاماً، من بينهم 17,000 فقدوا والديهم معاً.
700,000 طالب/ة حُرموا من التعليم، و12,441 منهم استُشهدوا.
241 مدرسة تضررت، و111 دُمّرت تماماً، فيما لم يعد التعليم متاحاً إلا افتراضياً في ظل انقطاع الكهرباء والإنترنت.
1.95 مليون يعانون من انعدام الأمن الغذائي، و345 ألفاً في حالة "مجاعة كارثية".
60,000 طفل يعانون من سوء تغذية، و12,000 في حالة حرجة.
7,700 مريض مهددون بالموت بسبب نقص الرعاية الصحية.
ما وراء الدمار.. مجاعة وأمّهات يرضعن الألم
الواقع لم يعد يقتصر على القصف، بل تجاوز ذلك إلى تدمير ممنهج لبنية الحياة: مجاعة مستفحلة، أطفال لا يحصلون على اللقاحات الأساسية، وأمهات يعانين من سوء التغذية ويفتقدن أبسط حقوق الرعاية الصحية. كل هذا يحدث في الوقت الذي تُقصف فيه المدارس والمستشفيات ويُقطع فيه الحبل السري بين غزة والعالم.
نداء يتجاوز اللغة.. إلى الضمير الإنساني
لم يعد أهل غزة بحاجة إلى المزيد من التقارير أو الصور؛ فهم يحتاجون فقط إلى "ضمير عالمي لا ينام"، إلى إنسان بسيط يعترف بمعاناتهم، لا أكثر. كلماتهم تخرج من تحت الأنقاض، لا تحتاج إلى ترجمة:
"حسبُنا أنك يا رب لا تحتاج قولًا… حسبُنا أنك ترانا حين يُغمض الجميع أعينهم وتسمعنا حين يصمّ الخلق سمعهم عن صراخنا. يا رب مَدَدَك… خذلان أحاط بنا من كل حدب وصوب."
ما يجري في غزة ليس مجرد أزمة إنسانية، بل سقوط أخلاقي عالمي. من مدارس تُقصف، إلى أطفال يُولدون وسط القنابل، ومن طوابير الغذاء التي تتحول إلى أهداف عسكرية، إلى كلمات الشهداء التي توثق ما لا يمكن محوه، تكتب غزة فصلها بصمت، في كتاب لم يعد أحد يقرأه.
لقد تحوّلت غزة إلى مرآة كاشفة لانحدار المنظومة الدولية، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الصمت، ولا حياة تُنتظر في ظل هذا الموت المُبرمج. يبقى السؤال قائماً:
كم من الدم يلزم ليفهم العالم أن غزة لا تطلب معجزة بل قليلاً من العدالة؟.