كتيبات الطوارئ تنتشر في أوروبا.. استعدادات متزايدة لمواجهة محتملة مع روسيا وسط شكوك شعبية

تشهد القارة الأوروبية في الآونة الأخيرة تحولات دراماتيكية في الخطاب الأمني والتخطيط المدني، في ظل تصاعد المخاوف من امتداد النزاع الروسي الأوكراني إلى قلب أوروبا. فقد بدأت عدة دول أوروبية بوضع سيناريوهات واقعية لاحتمال اندلاع حرب، لا تستثني المدنيين من معادلتها. هذا التحول لا يقتصر على الجانب العسكري أو الدفاعي، بل يتغلغل إلى تفاصيل الحياة اليومية للمواطن الأوروبي، من خلال أدلة النجاة، وخطط الإخلاء، وتحديث أنظمة الإنذار.
من “الرفاهية الدائمة” إلى “عقلية الحرب”
وفقًا لتقرير نشرته شبكة CNN، فإن الرسالة الأبرز من الحكومات الأوروبية وشركائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) هي ضرورة التحول الجذري في تفكير المواطنين. هذا ما أكده الأمين العام للناتو، مارك روته، حين قال: "حان الوقت للتحول إلى عقلية الحرب". وفي خضم هذا السياق، لم تعد المخاوف من التهديدات الروسية محصورة في دوائر النخب الأمنية، بل باتت جزءاً من خطاب التعبئة الشعبية.
ويبدو أن هذه المخاوف تتعاظم مع تراجع وضوح الموقف الأمريكي بشأن التزامه الأمني بأوروبا، ما يفتح الباب أمام سيناريوهات الغزو الروسي دون ردع حاسم من الحليف التقليدي.
أصدرت المفوضية الأوروبية توجيهات تحث المواطنين على الاستعداد لأي طارئ، وذلك بتخزين مواد غذائية وأدوات ضرورية تكفي لـ72 ساعة على الأقل. كما قامت دول مثل ألمانيا والسويد وفنلندا بتحديث خططها للطوارئ بشكل يُبرز جدية الاستعداد.
فألمانيا، في يونيو الماضي، أطلقت نسخة جديدة من "التوجيه الإطاري للدفاع الشامل"، يتضمن توصيات بتغيير نمط الحياة بالكامل عند اندلاع الحرب. وفي السويد، تم توزيع كتيب شامل على الأسر بعنوان "في حال نشوب أزمة أو حرب"، يتضمن إرشادات تتعلق بكيفية الاحتماء، إيقاف النزيف، والتعامل مع الذعر، بل وحتى كيفية الحديث مع الأطفال عن الأزمات.
وفي فنلندا، حيث يمتد الحد الفاصل مع روسيا على طول 1340 كيلومتراً، هناك أكثر من 50 ألف ملجأ، قادرة على استيعاب نحو 4.8 مليون شخص، من أصل 5.6 مليون نسمة. تلك الاستعدادات ليست جديدة على الدولة الإسكندنافية، بل هي امتداد لعقود من التفكير الدفاعي منذ خمسينيات القرن الماضي.
تحديات نفسية واجتماعية
رغم الجهود المؤسساتية المكثفة، لا يزال من غير المؤكد مدى تفاعل السكان مع هذه التوجيهات. فالتاريخ والهوية الوطنية يلعبان دورًا كبيرًا في تشكيل وعي المجتمعات تجاه التهديدات.
تشير الباحثة كلوديا ميجور، من صندوق "مارشال" الألماني، إلى أن بعض الدول، مثل فنلندا ودول البلطيق، تمتلك ما يمكن تسميته بـ"الحمض النووي المقاوم لروسيا"، نتيجة تجارب تاريخية مباشرة مع الاحتلال والعدوان الروسي. في المقابل، دول مثل البرتغال، وإيطاليا، والمملكة المتحدة، تبدو أقل استشعارًا للخطر الروسي، بسبب اختلاف الجغرافيا والذاكرة الجمعية.
تؤكد ميجور أن الهدف هو رفع جاهزية الشعوب دون إثارة الذعر، وتحديداً في ما يسمى بـ"المنطقة الرمادية" بين السلام والحرب، حيث تكون التهديدات غير مباشرة ولكنها مؤثرة. وتضيف أن الدول الغربية بحاجة إلى "إعادة برمجة" وعيها الجماعي تجاه طبيعة المخاطر الحديثة، بما فيها التهديدات السيبرانية، والتضليل الإعلامي، والحرب بالوكالة.
لكن التحدي الأكبر لا يكمن فقط في إصدار التوجيهات، بل في ضمان التزام المواطنين بها، خصوصاً في الدول التي لم تعرف الحروب على أراضيها منذ قرون، مثل المملكة المتحدة.
هل أوروبا جاهزة لسيناريو المواجهة؟
في ظل المتغيرات الجيوسياسية، والتحولات الاستراتيجية داخل حلف الناتو، وواقع الحرب المشتعلة في أوكرانيا، تبدو أوروبا وكأنها تستعد لأسوأ السيناريوهات، ولكن دون يقين حقيقي بأن شعوبها مدركة لخطورة اللحظة.
فهل يكفي إعداد الملاجئ والخطط، إذا ظل المواطن العادي متردداً في الإيمان بأن الخطر قد يطرق بابه؟
وهل تستطيع أوروبا فعلاً تغيير "الحمض النووي" الجمعي لشعوبها ليكون مستعدًا لكل الاحتمالات؟
الأسئلة كثيرة... والإجابات لا تزال قيد التشكيل، بينما عقارب الحرب لا تتوقف.