من تفجير بوذا إلى ترميم التاريخ.. هل تسعى طالبان لإعادة تشكيل صورتها عبر التراث؟

عندما فجّرت حركة "طالبان" تمثالَي بوذا العملاقين في باميان عام 2001، بدا ذلك لحظة صادمة للعالم بأسره، جرى خلالها محو جزء من التراث الإنساني يعود لأكثر من 1500 عام، بدوافع دينية متشددة. كانت الرسالة حينها واضحة: لا مكان لأي مكون ثقافي يسبق الإسلام، أو لا يتماهى مع أيديولوجية الحركة. لكن بعد عقدين، وتحديداً منذ عودتها إلى السلطة في أغسطس 2021، تقدم "طالبان" نفسها بصورة مختلفة جذرياً: حركة حريصة على حماية التراث الثقافي لأفغانستان، بما في ذلك المواقع والرموز البوذية نفسها.
فهل تغيّرت "طالبان" فعلاً؟ أم أن هذا التحول يهدف إلى إعادة رسم صورتها أمام الداخل والخارج؟ وهل ما يجري هو ترميم للتراث، أم محاولة لترميم السمعة؟.
استدارة تكتيكية أم مراجعة فكرية؟
في فبراير 2021، وقبل أشهر من دخولها كابول، أعلنت "طالبان" بشكل غير مسبوق أن "الآثار جزء من هوية البلد وتاريخه الغني"، في خطوة أثارت شكوك المراقبين حول دوافعها. واليوم، ومع تزايد الاكتشافات الأثرية في ولايات مثل لغمان وغزنة، تُظهر الحركة حرصاً ظاهرياً على الحفاظ على هذه المواقع، بما في ذلك نقوش براهمية وأدوات لصناعة النبيذ تعود لحقب ما قبل الإسلام.
هذه التصريحات الرسمية لا تأتي بمعزل عن واقع سياسي ضاغط. فالحركة، التي لم تنل بعد اعترافاً دولياً بحكمها، تسعى إلى تقديم نفسها كفاعل مسؤول في النظام العالمي، يحترم التراث ويشارك في حفظه، في مقابل الصورة النمطية التي رسختها ممارساتها السابقة. ويبدو أن الاعتراف الغربي – لا سيما في ظل العقوبات وتجميد الأصول – أصبح مرهوناً ليس فقط بسلوكها السياسي، بل أيضاً بتعاملها مع الثقافة والمجتمع.
التراث كرافعة اقتصادية وورقة تفاوض
يشير بعض الخبراء إلى أن التراث بات يشكّل رافعة محتملة للتنمية الاقتصادية، عبر تنشيط قطاع السياحة الثقافية الذي تضرر لعقود. وتدرك "طالبان" أن الحفاظ على المواقع الأثرية قد يعزز من فرص جلب الدعم الخارجي، كما قد يخفف من حدة الانتقادات الحقوقية والسياسية الموجهة لها.
في هذا السياق، أعادت "طالبان" افتتاح المتحف الوطني، وتواصلت مع جهات دولية، مثل "صندوق آغا خان للثقافة" و"التحالف الدولي لحماية التراث" (أليف)، سعياً للحصول على دعم فني وتقني لترميم مواقع مثل "ميس عينك"، الذي يحتوي على آثار بوذية ومعدنية في آنٍ معاً.
لكن في المقابل، يرى البعض أن هذا الانفتاح يظل انتقائياً. فبينما تهتم الحركة بالتراث المادي، مثل الآثار والتماثيل والمخطوطات، تُبقي على موقف متشدد تجاه التراث غير المادي، من موسيقى ورقص وفنون شعبية، خصوصاً تلك التي تتعلق بالنساء. وهنا يظهر الفارق بين ما يمكن توظيفه دولياً وما يُعتبر تهديداً داخلياً لأيديولوجيتها.
العوائق على الأرض.. من نقص الكفاءات إلى مخاطر النهب
رغم المؤشرات على تبدّل الموقف الرسمي، تظل التحديات العملية هائلة. فسنوات الحرب الطويلة استنزفت الكوادر المتخصصة، ومعظم الخبراء والباحثين في مجال الآثار غادروا البلاد. كما يواجه حُماة التراث المحليون ضعفاً شديداً في الموارد، إذ تُحفظ التماثيل المكتشفة في بعض المتاحف بأكياس بلاستيكية أو صحف بالية.
النهب المنظم يمثل تهديداً متواصلاً، حيث أشارت دراسة أجراها باحثون من جامعة شيكاغو في 2023 إلى أن أكثر من 30 موقعاً أثرياً في أفغانستان ما زالت عرضة للنهب النشط. وبينما تعلن سلطات "طالبان" عن اهتمامها بحماية هذه الكنوز، فإن غياب الرقابة ونقص التمويل يعيق الجهود الحقيقية على الأرض.
إضافة إلى ذلك، تبقى الأوضاع الأمنية هاجساً كبيراً، كما أظهر الهجوم الدموي على مجموعة سياحية في باميان العام الماضي. فمهما حسّنت الحركة من خطابها الثقافي، فإن الصورة الأمنية لا تزال قاتمة في نظر كثير من دول العالم.
صراع الذاكرة والشرعية
ما يحدث اليوم في أفغانستان يطرح سؤالاً أعمق: من يملك حق تعريف "الهوية الثقافية" للبلاد؟ وهل يمكن لحركة مثل "طالبان"، ذات سجل حافل بممارسات الإقصاء، أن تُصبح وصية على التراث المتنوع والمعقد لأفغانستان، من البوذية إلى الإسلام، ومن الساسانيين إلى المغول؟
يرى بعض المحللين أن هذه التحركات، مهما كانت صادقة أو انتقائية، تندرج ضمن صراع طويل على الشرعية والذاكرة. فبينما تسعى "طالبان" لتثبيت شرعيتها من خلال التماهي مع ماضي البلاد الغني، يخشى آخرون من أن هذا التماهي قد يُستخدم كغطاء لإعادة تشكيل التاريخ وفقاً لرؤية أحادية.