خاص شهاب الدين التيفاشي.. عبقرية نسيتها كتب التاريخ
شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف بن أحمد بن أبي بكر التيفاشي، أديب معروف، ينتمي إلى قرية "تيفاش" بالقرب من سوق أهراس في الشرق الجزائري، يعود نسبه إلى أسرة بارزة لها مكانتها في القضاء والوزارة والحِجَابة، وشغل التيفاشي منصب القضاء الذي تولاه والده قبله.
عُرف التيفاشي بنزعته الأدبية وشغفه بالعلم، حيث نشأ في بيئة علمية ثرية، كان والده من كبار علماء المعادن والأحجار الكريمة، وهو تخصّص نادر في التراث العربي الإسلامي.
عمل والد التيفاشي في بلاط الخليفة الموحدي منصور بن عبد المؤمن، الذي كان يقدّر العلماء ويهتم بعلم المعادن. من خلال والده، ورث التيفاشي حب العلم وتخصص فيه، فصار أديبًا وشاعرًا وطبيبًا وموسيقيًا، عاكسًا إرث والده الغني في مشواره العلمي والفني.
نشأته وتربيته العلمية
أبو العبّاس أحمد بن يوسف التيفاشي ولد في قرية "تيفاش" بالقرب من سوق أهراس في الشرق الجزائري، وفقًا لما ذكره ابن فرحون في كتابه "الديباج المذهب". وُلِد التيفاشي عام 580 هـ/1184 م في القرن الثاني عشر الميلادي. وقد أشار ياقوت الحموي إلى "تيفاش الظالمة" في معجم البلدان، موضحًا أنها كانت تُعد جزءًا من قفصة في تونس، لكنها اليوم تقع ضمن عمالة قسطنطينة في الجزائر.
التباس حول موطن التيفاشي
واجه الكثير من الباحثين والمستشرقين التباسًا حول موطن التيفاشي، ما أدى إلى نسبه إلى تونس بدلًا من الجزائر. على سبيل المثال، المستشرق الإسباني إيميليو غارسيا غومس ظلّ يعتبر التيفاشي تونسيًا حتى وفاته في عام 1975، ونقل هذا التصور إلى طلابه، بمن فيهم الأستاذة الدكتورة مانويلا كورتاس، المتخصصة في تاريخ الموسيقى الأندلسية، والتي واصلت هذا الخطأ في محاضراتها التي ألقتها في الجزائر وقسنطينة في 2014 و2015.
كما وقع في هذا الخطأ العديد من الباحثين والمؤرخين الذين نسبوا التيفاشي إلى تونس، مثل ابن فرحون في كتابه "الديباج المذهب"، وابن العميد في "بُغية الطلب في تاريخ حلب"، ونجوى عثمان في كتابها "أحمد بن يوسف التيفاشي وآثاره العلمية"، ومحمد القطاط في بحثه عن "بُغية الأسماع في علم السماع لأحمد التيفاشي القفصي"، وكتابات أخرى مثل "متعة الأسماع في علم السماع" لمحمد بن تاويت الطنجي. النسخة الخطية من كتاب "متعة الأسماع في علم السماع" التي يتم تحقيقها حاليًا على يد الأستاذ رشيد السلامي من تونس تُنسب إلى "أحمد القفصي التيفاشي"، مما يسهم في انتشار هذا الخطأ التاريخي.
ومثلما حدث مع الناقد ابن رشيق المسيلي الجزائري الذي عُرف خطأً بابن رشيق القيرواني، يُظهر هذا الوضع أهمية التصحيح التاريخي. أما حياة التيفاشي، فقد كانت تتنقل بين مسقط رأسه "تيفاش" ومدينة "سدراتة"، حيث تلقى معارفه الأولى على يد والده، الذي كان قاضيًا.
الرحلات والتحصيل العلمي
ورث التيفاشي عن والده مكتبة غنية بالمصادر التراثية، فكانت بمثابة كنز أثّر في حبه للعلم. انعكست شغفته بالمطالعة في قوله بأحد كتبه: "إنّي امرؤ استنبطت العلوم وحذقت النجوم وطالعت جميع الكتب من العلوم بأسرها على اختلاف أجناسها وأصنافها". لكن التيفاشي لم يكتف بالقراءة، بل اعتمد على دقة الملاحظة وتسجيل ما يسمعه، بالإضافة إلى التجربة، ليصقل معرفته العلمية.
في رحلة تحصيله العلمي، انتقل التيفاشي من بلدته إلى قفصة، ومنها إلى تونس في أواخر العصر الموحدي وبدايات العهد الحفصي، حيث تتلمذ على يد شيوخ مثل أبو العباس أحمد بن أبي بكر بن جعفر المقدسي. دفعه شغفه بالتعلم، كغيره من شباب عصره، إلى السفر وهو شاب إلى القاهرة، حيث درس على يد الشيخ موفق الدين عبد اللطيف البغدادي. لاحقًا، سافر إلى دمشق، حيث اعتاد حضور مجالس العلماء والشيوخ.
استقر التيفاشي في العراق، حيث أصبح قريبًا من بلاط الصاحب محي الدين الكبير، حاكم جزيرة أم عمر بالقرب من الموصل. حظي برعاية خاصة من الحاكم، الذي وفر له دارًا كبيرة واحتياجاته اليومية، وسمح له باستخدام مكتبة الصاحبية المعروفة، حيث قضى أوقاتًا طويلة في البحث والدراسة. خلال هذه الفترة، ألف كتابه الشهير "فصل الخطاب في مدارك الحواس لأولي الألباب"، وهو أحد إنجازاته الكبيرة.
أثناء إقامته في العراق، وجد التيفاشي نفسه في بيئة علمية ثرية، حيث التقى مع العديد من أعلام الأندلس والمغرب، بما في ذلك ابن سعيد الأندلسي، مؤلف "المُغرب في أخبار المغرب" و"المُشرق في أخبار المشرق". ومع ذلك، لم تُحدد المصادر المدة الأولى التي قضاها التيفاشي في المشرق بهدف طلب العلم. لكن المعروف أنه عاد إلى مسقط رأسه وتولى منصب القضاء في عهد الدولة الحفصية.
فيما بعد، انطلق في رحلة ثانية إلى الأراضي الشرقية، رحلة يبدو أنها كانت طويلة، حيث اجتاز خلالها أرمينيا والعراق وبلاد فارس. من المحتمل أن هذه الرحلة لعبت دورًا رئيسيًا في توسيع معرفته في مجالات المعادن والأحجار الكريمة والجواهر، والتي أصبحت لاحقًا مجال تخصصه المعروف ضمن سياق الحضارة الإسلامية. هذا التخصص يتضح من خلال كتابه الشهير "أزهار الأفكار في جواهر الأحجار".
تشير المصادر إلى أن التيفاشي عاد إلى القاهرة مرة ثانية، حيث تصدّر لتدريس العلوم وتولى منصب القضاء، كما خدم سلاطين مصر حتى وفاته في عام 651 هـ/1253 م، عن عمر ناهز السبعين عامًا.
دُفن في مقابر باب النصر في القاهرة، وهي المقابر التي دُفن فيها العظماء، مثل ابن خلدون وابن هشام النحوي، صاحب كتاب "المُغني اللبيب.."، الذي قال عنه ابن خلدون: "مازلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم في النحو أنْحى من سيبويه".
التيفاشي، الذي عاصر علماء بارزين في العصر الموحدي في المغرب وكبار أبطال الأمة العربية في عهد صلاح الدين الأيوبي، كان محظوظًا لانتسابه إلى هذا العصر. تميزت تلك الفترة بتيارات متعددة في التصوف والتدين وعلوم اللغة والتاريخ والحكمة والطب والفلك وغيرها. عايش التيفاشي عصر الحسن بن الشاذلي وابن عربي الحاتمي وابن دقيق العيد والعزّ بن عبد السلام، وكذلك انتصار الخليفة الموحدي المنصور بن عبد المؤمن بن علي على الإسبان في "معركة الأراك"، وانتصار صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في "معركة حطين". كان هذا العصر زخمًا بأحداث وتطورات تليق بإنجاب عمالقة مثل ابن خلدون والتيفاشي وابن هشام اللّخمي.
وكان من حسن حظ التيفاشي أن يرث الدولة الحفصية بعد الموحدين، وأن ينتقل إلى القاهرة في عهد سلاطين المماليك، مما أتاح له فرصة الاستفادة من ثقافة المشرق والمغرب. هذه البيئة المتنوعة والثرية ساهمت في إشعال شغفه ودفعته إلى التفوق في مختلف مجالات العلم والأدب، من التخصص الدقيق في علم الجواهر إلى الفهم العميق للفن الموسيقي، إلى جانب اهتمامه بالفنون الغرائبية المستوحاة من أدب الرحلات وتجارب السفر. وتظهر هذه المعارف في كتبه التي عكست التزامه بالأمانة العلمية والدقة في البحث لتحقيق أهدافه.
منجزات التيفاشي وأعماله
كان للتيفاشي إنتاج علمي وأدبي غزير، يغطي مجالات متنوعة، من الجيولوجيا والمعادن، إلى الطب والأدوية والطب الجنسي، وصولًا إلى أدب السياحة والرحلات والأرصاد الجوية، فضلًا عن الشعر والموسيقى. من أبرز أعماله:
1. "أزهار الأفكار في جواهر الأحجار": كتاب يهتم بعلم الأحجار الكريمة والجواهر، صححه وحققه الدكتور محمد يوسف حسن والدكتور محمود بسيوني خفاجي، ونشرته دار الهيئة المصرية العامة للكتاب في عام 1977. يبرز هذا الكتاب التيفاشي كأحد رواد علم الأحجار الكريمة في الحضارة الإسلامية.
2. "المنقذ من التهلكة في دفع مضار السمائم المهلكة": كتاب في الطب يركز على معالجة الأمراض الباطنية.
3. "الدرر الفائقة في محاسن الأفارقة": يتضمن مشاهدات التيفاشي خلال زيارته إلى أرض النوبة والسودان وجنوب مصر، حيث يقدم ملاحظات حول طبيعة تلك المناطق وسكانها.
4. "رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه": كتاب عن الصحة الجنسية والتربية الجنسية. يشير بروكلمان إلى أن مصدر التيفاشي في هذا المجال يمكن أن يكون "العِرس والعروس" للجاحظ.
5. "سجع الهديل في أخبار النيل": كتاب يتناول نهر النيل وجغرافيته وفيضاناته وما يُزرع على ضفافه، ليشكل جزءًا من ثقافة السياحة.
6. "سرور النفس بمدارك الحواس الخمس": كتاب حول الحواس الخمس، هذبه ابن منظور، وحققه الدكتور إحسان عباس، ونشرته المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عام 1980.
7. "الشفا في الطب عن المصطفى": كتاب يُعنى بالطب النبوي الشريف.
8. "قادمة الجناح في النكاح": كتاب عن العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة، ما يعكس اهتمام علماء ذلك العصر بهذا الموضوع.
9. "الديباج الخسروني في شعر ابن هانئ": شرح أدبي لديوان الشاعر ابن هانئ الأندلسي.
10. "دُرّة الآل في عيون الأخبار ومستحسن الأشعار": كتاب يتضمن فُكاهات وأشعار وقصصًا وأمثالًا.
11. "نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب": يُصنّف ضمن أدب الرحلات.
12. "متعة الإِسماع في علم السماع": كتاب في الموسيقى، يعكف الأستاذ رشيد السلامي التونسي على تحقيقه. يبرز في هذا الكتاب معرفة التيفاشي الواسعة بعلم الألحان، لا سيما الأندلسية منها والمغاربية، ويشير إلى أهمية الشاعر ابن باجه في تأسيس المدرسة الأندلسية الموسيقية التي جمعت بين الطبوع الموسيقية المسيحية الإسبانية والعربية الإسلامية الأندلسية.
13 .كتاب “فصل الخطاب في مدارك الحواس لأولي الألباب” وهو الكتاب الذي ألّفه بالعراق كرد للجميل لصاحبه على الحفاوة التي حظي بها عنده ،وتقول المصادر إنّه موسوعة علمية من الطراز الرفيع تقع في حوالي أربعين مجلدا وهو بمثابة موسوعة في مختلف العلوم والتاريخ والآداب.