اتحاد العالم الإسلامي
اتحاد العالم الإسلامي
رئيس مجلس الإدارة د. محمد أسامة هارون رئيس التحرير محمود نفادي
كيف نميز بين وسوسة الشيطان ودعوة النفس؟.. الدكتور علي جمعة يوضح مفتي الديار المصرية: تجديد الخطاب الديني هدفه استيعاب الواقع المتجدد برؤية حكيمة مدير الجامع الأزهر: الإسلام يدعو إلى الأمن والأمان والتمسك بالأحكام لتحقيق سعادة البشرية مفتي الديار المصرية لوفد برنامج الأغذية العالمي: مستعدون للتعاون في كل ما ينفع البشرية أمين ”البحوث الإسلامية”: الشريعة حرصت على البناء المثالي للأسرة بأسس اجتماعية سليمة بالقرآن والسنة.. الدكتور علي جمعة يكشف حكم زواج المسلمة من غير المسلم أمين مساعد البحوث الإسلامية: التدين ليس عبادة بالمساجد بل إصلاح وعمارة الكون الأوقاف المصرية: إيفاد سبعة أئمة إلى “تنزانيا والسنغال والبرازيل” «الإسلام وعصمة الدماء».. الجامع الأزهر يحذر من استباحة دماء المسلمين الأوقاف المصرية تعلن موضوع خطبة الجمعة القادمة.. ”أَنْتَ عِنْدَ اللهِ غَالٍ” حكم عسكري في غزة.. بين استراتيجيات الماضي ومخاطر المستقبل هل تصب تهديدات بوتين النووية في مصلحة ترامب؟

عقل راجح ونفس طيبة.. حكايات من سيرة الإمام الشافعي

الإمام الشافعي
الإمام الشافعي

من هذيل إلى بغداد فمصر... رحلة علم وفقه أسّست ذهبًا، في رحلة عبر الزمن، نُبحر عبر صفحات التاريخ لنلتقي بعقل فقهي عبقري، ونجم ساطع في سماء الفقه الإسلامي، إنه الإمام الشافعي، صاحب المذهب الشافعي، وثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة.

الإمام الشافعي.. نشأة يتيمة ونبوغ مبكر

ولد الشافعي يتيمًا، ونشأ في كنف أمه، لكنه لم يرضَ باليتم الفكري، فرحل في طلب العلم، وجاب الأمصار، واستفاد من كبار العلماء، حتى برز نبوغه الفقهي، وأصبح من أشهر فقهاء عصره.

سافر الإمام الشافعي من مكة إلى بغداد، ثم إلى مصر، تاركًا بصماته في كل مكان، ونشر علمه وفقهه بين الناس، حتى أسّس مذهبًا فقهيًا جديدًا، أثرى الفكر الإسلامي وألهم الأجيال.

في هذه السطور، نغوص في رحلة حياة الإمام الشافعي، ونستكشف إنجازاته العلمية، وتأثيره على المسلمين، ونُسلط الضوء على شخصيته الفذة، ونستلهم العبر والفوائد من سيرة هذا العالم الجليل.

نبوغ فقهي مميز

الإمام محمد بن إدريس القرشي المُطَّلِبي الشافعي، ساد زمانه واستمر أثره وذكره في المسلمين، حيث أصبح صاحب المذهب الشافعي في الفقه الإسلامي، ويعد ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة بعد الإمام أبي حنيفة النعمان والإمام مالك بن أنس، يصل نسبه إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم من خلال جده عبد مناف.

وصفه العلماء بأنه "عقل فقهي ومنهجي عبقري"، ويعتبر أول من وضع أسس علم أصول الفقه في كتابه "الرسالة"، كان إمامًا في الفقه والحديث وعلم التفسير، وأديبًا وشاعرًا.

مولده ونشأته:

ولد الإمام الشافعي في شهر رجب عام 150 هـ، الموافق أغسطس 767 م، في مدينة غزة بفلسطين. توفي في مصر في آخر يوم من شهر رجب عام 204 هـ، الموافق 20 يناير 820 م.

يتيم في كنف أمه

لم يتسنَّ له أن يتذكر ملامح والده إدريس، إذ توفي والده وهو صغير، فنشأ يتيمًا في رعاية أمه فاطمة بنت عبد الله الأزدية، التي تعود نسبها إلى قبيلة الأزد. قررت أمه العودة به إلى مكة عندما كان في الثانية من عمره، خوفًا من ضياع أصله ونسبه.

حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة

ما إن بلغ الإمام الشافعي سن التمييز، دفعت به والدته إلى التعليم رغم الفقر وضيق الحال، فحفظ القرآن الكريم وهو في السابعة من عمره. يتحدث عن هذه المرحلة قائلاً: "كنت يتيمًا في حجر أمي ولم يكن لها مال، وكان المعلم يرضى من أمي أن أخلفه إذا قام".

برزت علامات النجابة والذكاء عليه مبكراً، فوجهته والدته لإتقان تلاوة القرآن وتفسيره على أيدي شيوخ التفسير في المسجد الحرام. بعدها أقبل على حفظ الحديث النبوي، وكان مثالاً في الحفظ.

رحلة طلب العلم

درس الإمام الشافعي اللغة والنحو، ولما لاحظ دخول بعض من الكلمات والتعابير الغريبة في حديث المسلمين الجدد من غير العرب، وجه اهتمامه إلى اللغة.

وعمل بنصيحة الليث بن سعد، إمام مصر، الذي أوصاه بضرورة إتقان اللغة وأسرار بلاغتها وفنون آدابها، وحفظ الشعر الذي سبق نزول القرآن الكريم، لما في ذلك من عون على فهم معاني العديد من الآيات والأحاديث. نصحه أيضاً بالخروج إلى البادية لتعلم كلام قبيلة هذيل وشعرها، فقد كانوا أفصح العرب، وشعرهم غني بكنوز اللغة.

الإمام الشافعي.. رحلة عبر الأمصار

التأثير على المسلمين توجه الأمام الشافعي إلى بادية قبيلة هذيل قرب مكة، وعاش مع أهلها سنوات عديدة. حفظ أشعارهم وأخبارهم وكلامهم، وتعلم منهم اللغة والرماية والفروسية.

عاد بعدها إلى مكة حاملاً معه، بالإضافة إلى القرآن الكريم والشعر والآداب والأخبار والأنساب، ثروة هائلة من اللغة التي فتحت له مغاليق المعاني وأكسبته ذوقًا أدبيًا مكّنه من إدراك لطائف البلاغة وأسرار البيان. لدرجة أن الأصمعي قال عنه: "صححت شعر هذيل على فتى من قريش اسمه محمد بن إدريس الشافعي".

من مكة إلى بغداد

بينما كان الإمام الشافعي يسير ذات يوم على دابة، تمثل ببيت شعر، فقال له كاتب والد مصعب بن عبد الله الزبيري مستنكرًا: "مثلك يذهب بمروءته في هذا؟ أين أنت من الفقه؟" فتأثر الشافعي بذلك وقرر التوجه إلى مسلم بن خالد الزنجي، مفتي مكة، ثم إلى المدينة للقاء الإمام مالك بن أنس.

أقبل الشافعي بعدها على علماء الحديث والتفسير في مكة، ومن بينهم مقاتل بن سليمان ومسلم بن خالد الزنجي الذي أذن له بالإفتاء قائلاً: "آن لك أن تفتي"، لكنه تهيَّب مقام الفتيا واختار الرحلة لطلب المزيد من العلم.

رحلة الإمام الشافعي إلى المدينة المنورة

بدأ رحلته إلى المدينة المنورة، حيث درس عند الإمام مالك بن أنس بعدما حفظ موطأه كاملاً. لازم مالكاً واستفاد من علمه، ثم رحل إلى الكوفة في العراق، فتتلمذ على القاضي محمد بن الحسن الشيباني وأبي يوسف، وأخذ من علمهما ونسخ كتباً عديدة.

انتقل بعدها إلى بلاد فارس وغيرها، واستغرقت رحلته سنتين ازداد فيهما علماً بالأمصار وأحوال الناس وطباعهم.

عندما عاد إلى المدينة، لازم الإمام مالكاً حتى وفاته سنة 179 هـ. فكر في عمل يدفع به حاجته، ووافق ذلك قدوم والي اليمن إلى الحجاز، فطلب الوالي اصطحابه معه بناءً على توصية بعض القرشيين الذين أثنوا على نسبه وعلمه وأخلاقه، وولاَّه الوالي على نجران.

كانت تلك الوظيفة الأولى والأخيرة التي تقلدها الشافعي، وجلبت له متاعب كبيرة بسبب حسن تدبيره وارتفاع ذكره بين الناس، ما أثار حقد الوالي الذي أبى أن يقره على مظالمه.

تزامن ذلك مع خروج تسعة من العلويين في اليمن على الخلافة، فاستغل الوالي الفرصة ووشى به عند الخليفة هارون الرشيد، مدعياً أنه رأس الخارجين عليه. أمر الرشيد باعتقالهم وإرسالهم إليه، فاقتيد الشافعي مع التسعة إلى بغداد سنة 184 هـ، مثقلاً بالأغلال والحديد في قدميه، وعمره 34 سنة.

نجا الشافعي من المحنة بلطف الله وفطنته وقوة حجته، وشهادة شيخه القاضي محمد بن الحسن لصالحه عند الخليفة. ذكر الشافعي هذه المحنة في الجزء الأول من كتابه "الأم"، حيث روى أنهم دخلوا على الرشيد وأمر بقطع رؤوسهم واحداً تلو الآخر. عندما جاء دوره، قدمه محمد بن الحسن وشهد له بعلمه وفقهه. تأثر الرشيد بكلام محمد بن الحسن، فأمر بإطلاق سراحه.

مكث الشافعي نحو تسع سنوات في مكة، يلقي دروسه في الحرم المكي، ويلتقيه كبار العلماء في موسم الحج. سافر مرة أخرى إلى بغداد سنة 195 هـ، حيث أقبل عليه العلماء والمحدثون وأهل الرأي، وأصبح لديه تلاميذ وأتباع في العراق، من أشهرهم الإمام أحمد بن حنبل. في بغداد، ألف كتاب "الرسالة"، الذي وضع فيه الأساس لعلم أصول الفقه.

تأسيس المذهب الشافعي في مصر

عندما تولى المأمون الخلافة، لاحظ الشافعي غلبة الفرس ونفوذهم في دوائر الحكم، وتشجيع الحاكم الجديد على الفلسفة والترجمة، والخوض في علم الكلام الذي كان الشافعي ينهى عنه. عزم الشافعي على الرحيل إلى مصر سنة 199 هـ/815 م، بعدما رفض عرض المأمون بتولي القضاء.

خرج أهل بغداد لوداع الإمام الشافعي، وكان من بينهم أحمد بن حنبل الذي أمسك بيده وقال له الشافعي:

لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر ** ومن دونها أرض المهام والفقر

ووالله لا أدري أللعز والغنى** أساق إليها أم أساق إلى القبر

فبكى الإمام أحمد، ورافقه في سفره ثلة من تلاميذه، منهم ابن الزبير الحميدي والربيع. عندما وصل الشافعي إلى مصر، بدأ بإلقاء الدروس في جامع عمرو بن العاص، فاجتمع الناس حوله وأحبوه. أقام بينهم أربع سنوات، وخلال هذه الفترة أعاد كتابة كتابه "الرسالة" ونقح العديد من آرائه وأقواله في كتبه، مستفيدًا من العلم الذي حصّله خلال رحلاته، لا سيما في المدينة والعراق.

جمع في مدرسته بين محاسن مدرستي أهل الرأي وأهل الحديث، وأسّس مدرسة جديدة تجمع بينهما. يسَّر الله له تلاميذ نشروا علمه ومذهبه بين الناس.

توفي الإمام الشافعي في آخر ليلة من شهر رجب سنة 204 هـ، الموافق 20 يناير 820 م، عن عمر ناهز 54 عامًا بعد مرض أنهكه.

دُفن في القاهرة حيث احتفى به المصريون في حياته وبعد وفاته. بنوا له ضريحًا وقبة.