إفريقيا على شفا الربيع العربي.. بين الاحتجاجات والتغيير المأمول
نشرت مجلة "السياسة والمجتمع الدولي/IPG" الألمانية مقالاً بقلم المحلل السياسي "Henrik Maihack"، رئيس قسم أبحاث إفريقيا في مؤسسة فريدريش إيبرت، ناقش فيه الأوضاع السياسية في إفريقيا. رغم تزايد تظاهرات الشباب في العديد من دول القارة، فإن الحديث عن "ربيع إفريقي" ما زال مبكرًا. فما هي الأسباب التي تمنع هذا التحول؟
تُظهر الأحداث الأخيرة في إفريقيا تصاعدًا في الاحتجاجات، من تولي شاب منصب الرئيس في السنغال إلى استجابة المحتجين في كينيا بإلغاء زيادات ضريبية. لكن، وبالرغم من هذه الحركات، لا يزال من الصعب اعتبارها "ربيعًا إفريقيًا"؛ إذ تختلف دوافع الاحتجاجات وتتناقض بين الدول.
تشير الاستطلاعات إلى تصاعد الإحباط بين الشباب، حيث يفضل ثلثا الأفارقة الديمقراطية كنظام للحكم، ولكن الولاء الحزبي وتوجهات التصويت تتراجع. وفي ظل أزمة ديون وتضخم متفاقمين، يواجه العديد من الأفارقة تحديات اقتصادية صارخة، مما يساهم في زيادة الاحتجاجات. وفي ظل فشل السياسات الاقتصادية التقليدية، يبحث الشباب عن بدائل، وغالبًا ما يستلهمون من نجاحات مشابهة في دول أخرى.
ومع ذلك، لا يبدو أن عام 2024 سيكون عامًا للانقلابات في إفريقيا، بل يبدو أنه عام الانتخابات والاحتجاجات، مما قد يعتبر مؤشرًا إيجابيًا. تحتاج الحكومات إلى استجابة أسرع للأزمات الاقتصادية وتقديم فرص عمل حقيقية للشباب. وتحتاج أوروبا إلى تعزيز تعاونها التنموي مع إفريقيا، وتبني سياسات تساهم في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في القارة.
في السنوات الأخيرة، اندلعت احتجاجات متكررة في إفريقيا؛ من السودان إلى جنوب إفريقيا. ويبدو أن وتيرة الاحتجاجات آخذة في التصاعُد في الوقت الراهن. فعلى الرغم من أن تصنيف الاحتجاجات كظاهرة وسمة مميزة لـ “جيل زد” يطمُس العديد من الاختلافات بين هذه الاحتجاجات، إلا أنه في قارة يبلغ متوسط أعمار مَن هم على رأس السلطة أكثر من 60 عامًا، بينما يبلغ متوسط أعمار أولئك الذين يحكمونهم أقل من 19 عامًا، لا يمكن اعتبار هذا التعريف الذاتي للمُحتجين باعتبارهم ينتمون إلى “جيل زد” محض صُدفة.
كما تُظهِر الاستطلاعات الأخيرة موجات من الإحباط المتزايد بين الشباب: وعلى الرغم من أن ثلثي المواطنين في إفريقيا يعتقدون أن الديمقراطية هي الإطار الشرعي الوحيد للحكم، إلا أن الولاء الحزبي والإقبال على التصويت تراجعا بين فئة الشباب. كما إن إفلات أصحاب السلطة من المحاسبة وفق معايير ديمقراطية يعني أن البدائل الجذرية ستحظى بمزيد من الشعبية، الأمر الذي يفسر ازدياد الدعم الشعبي للتدخُل العسكري في حالات إساءة استخدام السلطة في مختلف أنحاء إفريقيا، وخاصة بين الشباب. الأمر الذي يعني بدوره إمكانية اندلاع المزيد من الاحتجاجات وتراجُع الانتماء الحزبي. ووسط كل هذا الحراك تظل الديمقراطية هي الهدف، إذ يرى كثيرون أن الانقلابات تمثل خطوة على طريق إنقاذ الديمقراطيات المٌعطَلة.
ومع ذلك، من غير المرجح أن يكون عام 2024 عام الانقلابات في إفريقيا، مقارنةً بالعام السابق. وحتى الآن من الجائز تسميته بعام الانتخابات والاحتجاجات. وهذا مؤشر إيجابي ومُبشِر في حد ذاته. كما أنه يَصعُب التنبؤ بتوقيت اندلاع المزيد من الاحتجاجات، ولكن المواطنين في نيجيريا وأوغندا أعربوا عن كون النجاحات في السنغال وكينيا ملهمة لهم أيضًا، تمامًا كما أبدت زيمبابوي استجابة لنجاح الاحتجاجات الطلابية في بنجلاديش. إنهم يلهمون بعضهم البعض، وفي بعض الحالات يتبادلون الأفكار. ولكن من السابق لأوانه الحديث عن “ربيع إفريقي”، خاصة في ظل نشوب الاحتجاجات الأخيرة في بلدان تتمتع بانتخابات حرة نسبيًا، مثل كينيا ونيجيريا. وهذا يعني أن التغيير عبر صناديق الاقتراع لا يزال ممكنًا، كما هو الحال في السنغال. ولكن ليس من المستبعد أن ينتشر هذا النهج في القارة.
وبالنظر إلى الاحتجاجات الأخيرة، يتضح أن الدافع الرئيسي خلفها يتمثَل في نقص المشاركة الاجتماعية، إذ يفتقِر الشباب إلى الثقة في دافعية الساسة الموجودين حاليًا على رأس السلطة من أجل تحقيق ذلك. وفي كل عام، يبحث قُرابة اثني عشر مليون مواطن عن فرصة عمل جديد في أسواق العمل الإفريقية، حيث لا يتوافر سوى ثلاثة ملايين وظيفة فقط، بينما يعيش الأغلبية حياة غير مستقرة نظراً للعمل في القطاع غير الرسمي.
وفي ضوء أزمات الديون والتضخم المتفاقمة في أعقاب الوباء، والحرب العدوانية الروسية، وارتفاع أسعار الفائدة الغربية، يمكن التنبؤ بجولة جديدة من التقشف والنُدرة النقدية في إفريقيا، دون أن تستفيد الأغلبية من المشاريع المُمَولة بهذه الديون. ومن المرجح أن تعاني أكثر من 20 دولة في القارة أزمة ديون في الوقت الراهن. وبالتالي تحتاج العديد من الحكومات، بشكل عاجل، إلى مساعدات صندوق النقد الدولي، خاصة وأن قروض الصين قد تراجعت منذ عام 2016، فيما ارتفعت أسعار الفائدة على السندات الحكومية بالعملات الغربية.
وعلى الرغم من ذلك، لم يبدِ صندوق النقد الدولي استعدادًا لتقديم مساعدات طارئة تخضع لحزمة من الشروط. فعلى سبيل المثال، يُطالب الصندوق تقليديًا بتحصيل إيرادات ضريبية أعلى. ولكن بسبب عدم وجود ما يكفي من الوظائف الخاضعة للنظام الضريبي، لا يوجد أمام الحكومات خيار سوى فرض الضرائب على امتيازاتها أو استهلاكها اليومي أو خفض الدعم على السلع اليومية.
مؤخرًا، اختارت الحكومة في كينيا اتباع مثل هذه التدابير الرجعية، والتي أضرت بالفئات ذات الدخل المنخفض، تحديدًا، إذ تنفق الحكومة الآن المزيد من الأموال على فوائد الديون أكثر من تمويلها لقطاعي الصحة والتعليم. وهو ما يعد سبباً مباشرًا لإثارة الاحتجاجات الأخيرة، لكنها في الواقع تستند إلى تراكمات طويلة الأمد من السخط الشعبي جراء الاختلالات البنيوية.
اليوم، أصبحت الخدمات العامة في المُدن المُتنامية في إفريقيا أكثر تَرديًا مما كانت عليه قبل الوباء. لقد كان التضخم مرتفعًا بالفعل؛ ففي نيجيريا وصل معدل التضخم حاليًا إلى ما يقرب من 40 في المائة. والحكومة النيجيرية الآن بصدد فرض المزيد من الضرائب. ويُعتبَر هذا الإجراء بمثابة تهديد اقتصادي للحياة اليومية وعبء إضافي على مستقبل جيل بأكمله. ونظرًا للتوسع الحضري السريع، يعيش العديد من الأشخاص الآن حالة من التقارب والتواصل داخل المستوطنات غير الرسمية في القارة – أو من عبر حسابات وسائل التواصل الاجتماعي؛ مثل تطبيقي “تيك توك” و “إكس”. ومن ثم يمكنهم معرفة الكيفية التي يعيش بها الآخرون وتتولد لديهم نفس الدوافع وردود الأفعال. فهناك الكثير من هؤلاء الذين يصعب استرضائهم بالإثابات الانتخابية، ويطمحون بالفعل إلى تغييرات جوهرية.
تعكس الاحتجاجات أيضاً فشلاً أكثر جوهرية يتعلق بسياسات التمويل والإمداد التي استمرت على مدار أربعين عاماً، في محاولة خلق النمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل بواسطة تحسين البيئة الاقتصادية، فيما يٌلقى باللوم، بشكل خاص، على عاتق الغرب. وفي أعقاب الحرب الباردة، انشأت أغلب الدول الإفريقية أنظمة ديمقراطية، ولكنها شرعت في ذلك في غضون مرحلة حرجة من أزمات الديون التي سادت منذ ثمانينيات القرن العشرين.
لقد تفاقمت هذه الأزمات نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة في الغرب، وكان التقشُف الذي شهدته دول القارة بمثابة الثمن المَدفوع، بناء على توصيات صندوق النقد الدولي، الذي تتمتع فيه الدول الغربية بنفوذ خاص. وبهذا الشكل أُسدِلَت “ستائر النهاية” على التنمية في العديد من دول إفريقيا، على الرغم من إرسائها مبادئ الديمقراطية، نظراً لسيادة مناخ تحرير الاقتصاد، وتقليص الضمان الاجتماعي، وتضاؤل فرص العمل.
وحتى بعد ذلك، اِضْطَلعَت سياسات التمويل والإمداد بمسئولية مباشرة عن المشاكل الاقتصادية المستمرة في إفريقيا. ففي تسعينيات القرن العشرين، اعتبرت العديد من “الدول المانحة الغربية”، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تحرير التجارة، والحكم الرشيد، والتدريب المهني بمثابة الروافع الرئيسية للتعافي الاقتصادي.
وكان التعاون موجهاً نحو تحقيق ذلك الهدف. وبالنظر للتجربة على أرض الواقع نجدها لم تحقق النجاح المنشود، فلم ينمو دخل الفرد في إفريقيا بالكامل إلا بنسبة واحد في المائة منذ عام 1990. والآن تحولت بعض الدول التي طالما نالت إشادات بحكمها الرشيد إلى أنظمة استبدادية تعمل على زعزعة استقرار مناطق بأكملها. وفي المرحلة الحالية من ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة وأوروبا، لم يعد هناك أي رأس مال يتدفق إلى إفريقيا، بل صار يذهب في الاتجاه المعاكس.
ولكن يبقى هناك نتيجة إيجابية واحدة، على الأقل: فمنذ عام 2000 تضاعفت نسبة الأفارقة الحاصلين على شهادات جامعية. لكنهم عاجزون عن إيجاد فرص عمل، ويثورون الآن ضد حكومات الشركاء الغربيين المقربين مثل تلك الموجودة في كينيا ونيجيريا. ويجد بعض المراقبين أنه من المدهش أن يهاجم المحتجون في كينيا صندوق النقد الدولي، بينما لا يهاجمون ديون الصين.
وهذا السلوك ليس مفاجئاً في ضوء بيانات استطلاعات الرأي من مختلف أنحاء أفريقيا: إذ تحظى الصين بشعبية أكبر في إفريقيا مقارنةً بالدول الأوروبية كما لا تتحمل نفس المسؤولية التي يتحملها صندوق النقد الدولي جراء متطلباته. وإنما تحظى نجاحات السياسات الاقتصادية التي تحمي السوق وتعزز الطلب في الصين والبرازيل بالإعجاب، بينما قوبلت نصائح الغرب بشأن الاقتصاد بالرفض في السابق.
والأمر السار، إن أبناء هؤلاء الآباء الذين عانوا من الويلات في سبيل التحرير السياسي، وذاقوا الحرمان السائد في حقبة ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، يبحثون حاليًا عن وسائل ديمقراطية للتعبير عن استيائهم. وحيثما وجدوا هذه السُبل، يفصح المحتجون صراحة عن إخفاق الدساتير الديمقراطية أو الوعود الانتخابية غير المُتحقِقة.
إن دولة الصين ذات الحزب الواحد ليست نموذجًا لهم. كما إنهم ليسوا من محبي روسيا. لكنهم فقدوا الإيمان بأن السياسيين الحاليين في بلدانهم، الذين يتحملون المسؤولية المشتركة عن سياسة التمويل والمساعدات التي يجري تنسيقها مع الغرب، لا يزالون قادرين على دفع عجلة التغيير ودمج “جيل زد” في المشاركة الاقتصادية والاجتماعية.
وبالنظر إلى العديد من الاقتصادات السياسية في القارة، نجد أنه من المحتمل أن تؤدي إعادة التوزيع الاقتصادي أو فرض الضرائب على التدفقات المالية إلى مخرج ضريبي، ولكن وفق اقتراحات النقابات العمالية والمجتمع المدني، ربما أدت أيضًا إلى انهيار التحالفات الحكومية القائمة. وهو السبب أيضًا خلف ظهور وانتشار العديد من الدعوات إلى الاستقالة على غرار (هاشتاج#RutoMustGo / روتو لابد أن يرحل) في كينيا.
حتى لو كانت مصالح أوروبا حاليًا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا ببعض الحكومات الخاضعة للضغوط، فإن إدارة الحوار مع المحتجين أمر منطقي ومقبول، ولو من باب أن بعضهم قد يتحمل المسؤولية السياسية في المستقبل المنظور (السنغال نموذجًا). هذا بالضبط ما طالب به بشدة المشاركون في حركات الاحتجاج الأفريقية خلال زيارة حديثة إلى برلين. فلا ينبغي المُخاطرة بثقتهم أكثر من ذلك.
ولكن المهمة الأكثر إلحاحاً التي تواجه مجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي تتلخص في الاستجابة الأكثر جوهرية لفشل أربعين عاماً من سياسة التمويل والمساعدات في إفريقيا، الأمر الذي يعني توسيع المسار الذي سبق تحديده بالفعل في سياسة التنمية الألمانية نحو إقرار سياسة هيكلية عالمية مشتركة في مختلف أنحاء أوروبا وتلبية الرغبة الإفريقية في السيادة الاقتصادية. وهذا يتطلب إخضاع إدارة الديون الدولية إلى إصلاحات أسرع.
وإذا كُنا نريد كسب الثقة وكذلك الشركاء في إفريقيا، فإن المزيد من المشاريع التي تحفز الطلب الاقتصادي تشكل أهمية بالغة، مما يتطلب تحولاً نموذجيًا في نهج وخطة التعاون الأوروبي (التنموي) مع إفريقيا: من دعم المزيد من عمليات المعالجة وتوفير الوظائف المحلية الجيدة، إلى التحول الاجتماعي العادل في مجال الطاقة، وإنشاء منطقة تجارة حرة إفريقية تحمي السوق. وإذا كانت أوروبا تريد تقديم العرض الأفضل الذي طالما تم الترويج له في عالم متعدد الأقطاب، فيتعين عليها قبل كل شيء تعزيز فرص الطلب والمزايا.