لعبة ”بوتين”مع ”ترامب”

ربما لا أحد عاقل يتوقع أن يغلق الرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" ملف حرب أوكرانيا بصفة نهائية سريعا ، فالمقاول "ترامب" رجل صفقات وتكتيك عابر ، وقد أعلن أنه يريد الحصول على جائزة "نوبل" للسلام ، بينما سلوكه الأهوج لا يؤدى سوى إلى إشعال النزاعات والحروب التجارية والعسكرية ، وقد أكد رغبته فى عقد لقاء قمة فى العاصمة السعودية "الرياض" مع الرئيس الروسى "فلاديمير بوتين" ، وبدأ التمهيد بمكالمة هاتفية مفاجئة مطولة استغرقت 90 دقيقة مع "بوتين" ، وأرسل وفدا رفيع المستوى برئاسة وزير خارجيته "ماركو روبيو" للقاء النظراء الروس فى "الرياض" فى اجتماع قاربت مدته الخمس ساعات ، سرت بعده انطباعات متفائلة ، وبدت هذه التطورات كاختراق غير مسبوق فى علاقات واشنطن مع موسكو منذ بدأت حرب أوكرانيا قبل ثلاث سنوات ، وبدا أن "بوتين" يتجاوب مع مبادرات "ترامب" ، ربما بهدف التوصل إلى توافقات وتفاهمات ، قد لا يكون بينها الإغلاق النهائى لملف حرب أوكرانيا وتداعياتها .
ويبدو الفارق هائلا فى اللعبة الجارية بين سلوك "ترامب" وسلوك "بوتين" ، والأخير سياسى محنك ولاعب شطرنج غاية فى الذكاء ، وتجاوبه محسوب مع رغبات "ترامب" ، الذى لا يفتأ يعبر عن عظيم إعجابه بالرئيس الروسى منذ ولاية "ترامب" الأولى ، ولأسباب بعضها لا يزال غامضا حتى اللحظة ، وقد راهن "بوتين" على طبيعة "ترامب" الشخصية ، وفاز فى الرهان حتى قبل عقد القمة المنتظرة ، فعقد القمة فى ذاته اعتراف أمريكى بالدور الدولى لروسيا ، خصوصا أن ما أعلن عن موضوعاتها يتجاوز الملف الأوكرانى ، ويدور حول قضايا عالمية بينها ملف حروب الشرق الأوسط ، وقد أشعل سلوك "ترامب" تجاه روسيا غضب أوثق حلفاء أمريكا الأوروبيين عبر الأطلنطى ، وبدأ الشجار العلنى لقادة أوروبا مع واشنطن ، وانضم إليهم "كير ستارمر" رئيس وزراء بريطانيا "العمالى" ، حتى مع خروج "لندن" من الاتحاد الأوروبى قبل سنوات ، وتوالت اتهامات الأوروبيين لإدارة "ترامب" بالتخلى عن أوكرانيا وعنهم ، وتركهم فى العراء بعيدا عن مباحثات واشنطن وموسكو ، وبما أوقظ مخاوف أوروبية قديمة ، تحدث عنها الزعيم الفرنسى "شارل ديجول" قبل أكثر من ستين سنة ، وحذر من يوم سوف يأتى ، تترك فيه أمريكا أوروبا وحيدة ، بل وتتهكم عليها كما تهجم نائب الرئيس الأمريكى "جى.دى.فانس" على أوروبا فى اجتماع "ميونيخ" الأخير ، مع الانتقاد الفظ لقادة الاتحاد الأوروبى ، واتهامهم بالخروج عن ما أسماه "القيم الديمقراطية" والمسيحية ، ودعوتهم لتقبل أدوارا أكبر لأحزاب اليمين "الشعبوية" فى المشهد السياسى ، وكأنه يريد جعل أوروبا "ترامبية" هى الأخرى ، على نحو ما صارت إليه أحوال أمريكا ، وكأنه يريد نقل السلطة إلى الأحزاب "الشعبوية" المفضلة أيضا للرئيس الروسى "بوتين" ، وفى ذلك وجه آخر لما يكسبه "بوتين" من "هوجة" ترامب ، فموسكو الراهنة لديها مصلحة مباشرة فى تهميش أوروبا الذى بادر إليه "ترامب" ، ولدى موسكو رغبات لتصفية الحساب مع قادة الاتحاد الأوروبى وبريطانيا ، وقد نجحت من قبل فى كسب تأييد حكومتى "المجر" و"سلوفاكيا" ، ومع ضغوط "ترامب" واندفاعاته الهوجاء ، قد يكسب "بوتين" حليفا جديدا ، هو الأقوى بامتياز بين الحلفاء الغربيين الذين حاربوه فى أوكرانيا ، وأنفقوا مئات مليارات الدولارات و"اليوروهات" على الدعم العسكرى والاقتصادى والمالى لحكومة الرئيس الأوكرانى "فلوديمير زيلينسكى" ، المهدد بالدهس تحت عجلات قطار "ترامب" ، والمعرض لابتزاز غير مسبوق من واشنطن اليوم ، ولمطالبة بالتنازل عن نصف ثروات أوكرانيا من المعادن النفيسة ، المقدرة مخزوناتها بنحو 15 تريليون دولار ، ونقلها مباشرة إلى حوزة "ترامب" ، وبدعوى التعويض عن إنفاق أمريكا السخى على "زيلينسكى" وجيشه ، وهو ما يضع "زيلينسكى" فى مأزق حياته ، ويدفع بالرغبات الروسية إلى الأمام ، فموسكو تريد تغيير حكومة "زيلينسكى" الموصوفة عندها بالنازية ، وتريد نزع السلاح الأوكرانى بالكامل تقريبا ، وتريد غلق الباب على احتمال انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلنطى ، وقد أعلن "ترامب" نفسه رفضه انضمام أوكرانيا إلى "الناتو" فى أى وقت ، فوق إعلانه وأركان إدارته عن تنازلات أوكرانية ضرورية فى أى اتفاق لإيقاف الحرب ، بينها ـ غالبا ـ عدم العودة لخطوط 2014 ، والتجاوب جزئيا أو كليا مع رغبات روسيا فى الاحتفاظ بشبه جزيرة "القرم" وضم المقاطعات الأوكرانية الأربع (لوجانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون ) ، التى تسيطر روسيا على أغلبها عسكريا ، والأخطر مما سبق ، أن إدارة "ترامب" تريد عقد اتفاق مع روسيا ، ودونما تشاور مع حلفاء أمريكا الأوروبي…
بقلم الكاتب الكبير / عبدالحليم قنديل