مشروع الميزانية.. أزمة سياسية جديدة تعصف بفرنسا وحكومة بارنييه مهددة بسحب الثقة
تواجه حكومة الرئيس الفرنسي ميشيل بارنييه تحديات سياسية واقتصادية كبيرة في الفترة الحالية، حيث أثار مشروع ميزانية الدولة لعام 2025 خلافات حادة داخل البرلمان الفرنسي، خصوصًا بعد تصاعد تهديدات المعارضة اليسارية بسحب الثقة من الحكومة، وذلك في حال اضطرت إلى اللجوء إلى المادة 49.3 من الدستور لتمرير مشروع الميزانية دون تصويت برلماني. هذا التصعيد السياسي تزامن مع موجة احتجاجات شعبية وإضرابات واسعة النطاق، مما يعقد الموقف ويضع الحكومة في مواجهة أزمة متعددة الجوانب.
وكانت زعيمة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، مارين لوبان، قد هددت بسحب الثقة من الحكومة اعتراضًا على عدة بنود بمشروع الميزانية، وأبرزها تلك المتعلقة بالقدرة الشرائية وزيادة الضرائب على الكهرباء. وفي هذا السياق، كان رئيس الحزب، جوردان بارديلا، قد حذر من تأثير السياسات المالية الحالية على الوضع الاقتصادي في البلاد، مشددًا على ضرورة مراجعة هذه السياسات.
من ناحية أخرى، حذرت المعارضة اليسارية، التي تضم 193 نائبًا في الجمعية الوطنية، من أنها ستتقدم بمقترح لسحب الثقة إذا لجأت الحكومة إلى المادة 49.3 لتمرير الميزانية. ويعد هذا الأمر متوقعًا في حال لم تتمكن الحكومة من تأمين الأغلبية اللازمة لتمرير الميزانية في البرلمان. ويشترط النجاح في مقترح سحب الثقة دعم 124 نائبًا من حزب التجمع الوطني، وهو ما سيؤدي إلى أزمة حكومية قد تهدد استقرار البلاد سياسيًا.
وبغية تفادي الإطاحة بها، تسعى الحكومة إلى إجراء مشاورات مع رؤساء الكتل البرلمانية في الأيام المقبلة، حيث يلتقي رئيس الوزراء ميشيل بارنييه مع زعيمة حزب التجمع الوطني مارين لوبان في محاولة لإقناعها بعدم دعم مقترح سحب الثقة. وتهدف هذه المشاورات إلى تحديد أولويات الكتل البرلمانية المختلفة بهدف ضمان أن تلبي النصوص المالية في الميزانية تطلعات المواطنين وفي الوقت ذاته تحقق الاستدامة المالية التي تحتاجها البلاد.
وفي إطار المناقشات المستمرة، تم إدخال تعديلات عديدة على مشروع الميزانية 2025 خلال مناقشته في الجمعية الوطنية، ومن ثم أحيل المشروع إلى مجلس الشيوخ الذي استكمل مناقشته، ومن المقرر التصويت على كل النصوص الثلاثاء القادم. بعد ذلك، سيتم تشكيل لجنة مشتركة بين الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ لمناقشة التفاصيل النهائية.
لكن الأزمة السياسية في فرنسا لا تقتصر على الخلافات داخل البرلمان فقط، بل تمتد إلى الشارع الفرنسي الذي بدأ يعبر عن غضبه من سياسات الحكومة. وأظهرت استطلاعات الرأي أن 53% من الفرنسيين يؤيدون مقترح سحب الثقة من الحكومة، مع دعم أكبر من قبل أنصار الأحزاب اليسارية وحزب التجمع الوطني اليميني المتطرف. وفي هذا السياق، أظهر استطلاع للرأي أجراه معهد "إيبسوس" لصالح صحيفة "لا تريبيون ديمانش" أن 88% من أنصار حزب "فرنسا الأبية" اليساري الراديكالي و73% من أنصار الحزب الاشتراكي يؤيدون سحب الثقة من الحكومة.
أما في حزب التجمع الوطني، فإن 67% من أنصاره يريدون الإطاحة بحكومة بارنييه، وهو ما يشير إلى إمكانية تحقيق توافق بين القوى السياسية المختلفة في البرلمان للإطاحة بالحكومة في حال لم تتمكن من تمرير الميزانية كما هو مخطط لها.
ورغم هذه التهديدات، يبقى السؤال المطروح في الأفق هو: ماذا سيحدث بعد الإطاحة بالحكومة؟ في حال تم سحب الثقة، سيكون من الضروري إعادة تشكيل الحكومة أو إجراء انتخابات جديدة، وهو ما يعيد البلاد إلى "المربع الأول"، أي الوضع الذي كانت عليه قبل خمسة أشهر بعد نتائج الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية. وقد أظهر استطلاع الرأي أن 38% من الفرنسيين يرغبون في تعيين رئيس وزراء من التحالف اليساري "الجبهة الشعبية الجديدة"، بينما 33% يرغبون في تعيين شخصية من الأحزاب السياسية التي تدعم الحكومة الحالية، بينما 29% يفضلون إعادة تعيين ميشيل بارنييه رئيسًا للوزراء.
وبينما تستمر هذه المناقشات، فإن الوضع السياسي في فرنسا يتفاقم في ظل موجة احتجاجات واسعة في عدة قطاعات حيوية من قبل المزارعين وموظفي السكك الحديدية والعمال الحكوميين. هذه التحركات، التي تشمل إغلاق الطرق الرئيسية والمصانع، تعكس تزايد الغضب الشعبي من السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تنتهجها الحكومة، خصوصًا فيما يتعلق بزيادة الضرائب والالتزامات التي تتخذها الحكومة لتلبية شروط الاتحاد الأوروبي. كما عبر المزارعون، الذين يمثلون جزءًا كبيرًا من القاعدة الاقتصادية والاجتماعية في فرنسا، عن استيائهم من التراجع في دخولهم ومن القواعد البيئية الصارمة التي تفرضها سياسات الاتحاد الأوروبي، خاصة في قطاع الزراعة.
وتواجه الحكومة الآن اختبارًا صعبًا في التعامل مع هذه الأزمات، حيث يسعى بارنييه إلى التوازن بين تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة والضغط الاجتماعي المتزايد. وفي هذا السياق، تأمل الحكومة في فتح حوار مع النقابات العمالية في محاولة لتخفيف حدة الاحتجاجات، لكن التحدي يبقى كبيرًا في ظل تعقد الموقف الداخلي والخارجي على حد سواء.
إذن، تبقى الأيام المقبلة حاسمة بالنسبة لمستقبل حكومة بارنييه. فإما أن تنجح الحكومة في تهدئة الوضع والحفاظ على التوازن المالي المطلوب، أو قد تتفاقم الأزمة وتؤدي إلى سحب الثقة من الحكومة قبيل أعياد الميلاد، مما يهدد استقرارها السياسي ويضع البلاد أمام مرحلة جديدة من عدم اليقين السياسي والاقتصادي.